السطو على الفردوس

ثقافة 2022/06/06
...

 ياسين طه حافظ
 
بينهما أسمع المتناقضات، بعضها شرس يهدد وبعضها يمكن الانتباه له وتتجاوزه على حذر، وبعضها يوقفك أياماً لا تدري من الخشية ماذا تفعل!
«أن تكون جيداً، أن تكون في طريقك لسماع الثناء، يمكن أيضاً أن تكون في الطريق الذي تُرى فيه ممزقاً إلى أوصال ....»
واستنكرت ذلك واستكثرته وكرهت المبالغة، حتى رأيت وحتى سمعت أن ناساً ماتوا بشناعات مثل تلك.
ثمة من الكتاب من هو أكثر اعتدالاً.. وأولاء ظروفهم أو بيئتهم أكثر اعتدالاً. فيتز جرالد، يقول:
«كل كتابة جيدة هي سباحة تحت الماء وقطع النفس».
لكنّه يصعِّد أكثر: «الإنسان منا قد يكون قتْلهُ في المكان!».
وهكذا رأينا من بعد صنوفاً من الكتاب، من الشعراء ومن «صانعي» أو مبدعي الفنون، بعض في غنى ولهم حظوة وحمى، وبعض ينام الاستياء في غضون وجهه وواضح كمده في الكلمات وفي يبس
الشفتين.
هذه المتابعة الشجيَّة عموماً، نقلتني للكتابة بعيداً عن الدولة وخفاياها، أو مفضوحاتها، إلى أولئك الذين قصروا الكلام على الفن، وقصروا الخطاب على الإنسان فرداً، فلا يتسع ويصطدم بالحرس. وبهذا النوع الصافي - كما يبدو- من الكتابة ولجنا الأعماق الفرديَّة المهملة، المزدراة أو المجهولة. 
ومن كتابات مُسبرة أغوارٍ كهذه عرفنا الكثير مما واجهته وتواجهه البشريَّة، وكم فادح هو الخسران، وكم مؤلم هو الوضع البشري.
حجم وتاريخ العذابات الإنسانيَّة، بمختلف صنوفها وأدوات تنفيذها، كلاماً أو تجويعاً أو إهانة أو قتلاً وعلى مدى قرون، استوجبت إيقافها بما نسميه الوعي الإنساني أو النضال من أجل الحريَّة والعدالة، أو حقوق الإنسان بالتسمية التي تبنّاها عصرنا.
أساليب الثأر من، أو الردع أو إيقافها من الاستمرار، اتضحت عمليَّاً من طريقتين – الحديث حصراً عن الكتابة – إحداهما فضحها كشف الإيذاء والشراسة واستنكار الثقافة والمدنيَّة لتلك الممارسات، وهنا نجد روايات تهتم بالتفاصيل، وكأن تريد أن تقول كل شيء عن تلك الأفعال أو تلك الممارسات.
طريقة أخرى أن يقوم الكاتب، بما يملك من قدرة نفاذ، بتعرية المُدان وكشف الأسباب النفسيَّة والتاريخيَّة وراء فعله. ربما في ذلك ما كان علينا أن نسمع وتردد، والمؤثرات المختلفة في ويكشف أيضاً تفاصيل معاناة احتمال الأذى، والاضطهاد أو المهانات التي
لا تنسى.
ارتياح الكاتب أو اهتمامه أما قصد كشف الأذى والسوء للبشريَّة لترى، وأما ليرتاح هو من ظالم أول يثأر لأجيال قبله عانت وأجيال ما تزال تعاني، هي راحته في الحالين. في رواية لـ كابوت، يقول بطلها أولاس:
«أنا لا أريد أن انقّبك،
أنا أريد فقط أن أطفئ سيجاري..».
الكاتب، الفنان عموماً، لا يمكن أن يكون محايداً، ولا يمكن أيضاً أن يكون بعيداً عن الوضع البشري. حال الإنسان، تاريخ البشريَّة أكبر وأغنى مصادره وامتيازه، عظمته، من هناك. 
القدرات الإبداعيَّة تظل عاطلة أمام الخواء، الكاتب – الفنان عموما، مختلف عن عموم الناس لأنَّ المحبة بالنسبة للسوى، شيء يخص الغير وهم يمكن أن يقرؤه أو يسمعوه وحتى يكتبوه، لكنَّه لا يخصّهم. الأمر مختلف بالنسبة للكاتب، وحجم الاختلاف قدر حجم الوعي أو حجم الامتياز والسمعة، الحضور في التاريخ الأدبي، ليس بلا سبب.
وإذا ما شغلتنا الأخطاء، الثقافيَّة أو اليوميَّة، فكتبنا ما لا يجدي أو ما لا ينفع ولا يؤذي، أو أننا، لم نكن بمثل المنتظَر منا، فلا أستطيع القول، اعتذاراً، أو خجلاً، أو من أسف، هو انحسار الدور... حين يراجع الإنسان حياته يرى كثيراً من «الأشياء» يمكن أن تحذف ويشعر بحاجة لاعتذارات كثيرة أيضاً، كونه مدركاً ومالك قدرة تعبير، يدرك قبل غيره عذابات الناس في الأرض القريبين منه والبعيدين في القارات ويدرك أية أحزان وشناعات واجهت البشريَّة وتواجهها.
ومقابل هذه كلها، هو يعلم بأنَّ هناك نهاية له محتمة لا يستطيع أن يفعل شيئاً بإزائها.هنا إذاً، يكون حمقاً إبدال الموقف الإنساني الكبير والجليل بسفاهات قصار زائلة، وبدلاً من أن يمنح كتابته شرفاً، يسِمها بتفاهة أو ضآلة معنى. لن تنفع السلفنة الملوّنة واللمعان. 
الإنسانيَّة تريد ناسها العظام الذين وقفوا أو الذين يقفون بوجه الشرِّ الكتابة مثلما هي صناعة جماليَّة، هي صناعة شرف أيضاً! السمعة التي تقوم على الزائف والأناني والعابر، هي نوع من السطو البائس على الفردوس.