من النصِّ إلى فاعليَّة الخطاب

ثقافة 2022/06/06
...

 عبد الغفار العطوي 
 
في سيرته الذاتيّة الفكريّة (بعد طول تأمل) ظل الفيلسوف الفرنسي المعاصر بول ريكور (1913 - 2005) يؤكد في كتابته على أن (صراع التأويلات) يمثل السمة الأساسية في فهم الذات الفاعلة، خاصة لو كانت تلك التأويلات تتعلق بالتحليل النفسي، لنكتشف أن الكتابة تعتمد على بلاغة الذات في صورتها الباطنيَّة، في ممارسة فعل الكتابة، لأنَّ الكتابة تحقق مراد الذات في احتدام الصراعات. 
ولعل الاختيار الذي اختطه القاص والكاتب العراقي الكبير محمد خضير في مشواره الكتابي الذي قارب به عمره إلى العقد الثمانيني مزاولة الكتابة في ذروة بلاغتها. بدء بالحكاية التي كان مأخوذاً بها، وهو يعيش في العالم القصصي الستيني من حيث، إنه قد أرسى ملامح القص الكلاسيكي العراقي بكل تمظهراته الحداثويّة التجريبيّة والابتكارات الفنيّة التي تدفع بها تجارب كبار ممثلي القصة العالميّة والعربيّة في محاولاته الرائدة في (المملكة السوداء) ثم (في 45 درجة مئوية) حتى (رؤيا خريف) مع جيله الذي تدرّب على آليّات الكتابة التقليديّة، في عزلة الصراعات القائمة على التجريب، والاعتماد على سلسلة الحكايات، إذ إنَّ أكثر الكتابات التي اعتمدها ذلك الجيل هو تجميد فكرة التداول الحكائي على كونه كلاماً حكائياً واعتبره هو الأفضل في إرساء الكتابة القصصية، ولم يغامروا بتناول السرديات بالمفهوم الخطابي، لأنَّ أكبر همهم خلق عالم فني يحاكي عالم للحكاية، بيد أنَّ محمد خضير لم يقف عند هذا الحد مثل بقية جيله، بل قلب الطاولة على عالم الحكاية، نحو عالم الخطاب، وجرّب السرديات الكلاسيكية، باتخاذ الخطاب لا الحكاية بؤرة تمركزه الذاتي، وراح يقوي من أصول التلقي، في وضع مقاربات معرفيّة ومقايسات سرديّة (في صحيفة التساؤلات) من ناحية تمرير السرديات التي ملأها بالأحاجي والألغاز والمتاهات إلى أن تتخذ من اللسان الحكائي ارتكازات سيميوطيقية، أي أنه فضل أن يكون عالم سردياته عبارة عن علامات لسانيّة لفظيّةّ وغير لفظيّة، فانحاز نحو العناية أولاً بالخطاب السردي، من خلال الاهتمام بجوهر الحكايات باعتبارها علامات أيقونيّة تدل على وجود تدفق دلالي ولساني في الإقرار بأنَّ منظومة المحكي لا تحتاج سوى لفكرة التلقي، ثم استقل بالخطاب من النصيّة السرديّة الدالة على الحكي نحو الخطاب القائم على فكرة الشرح والتفسير، لذا كتب مقالاته في (ثقب الأوزون) وفي (تاريخ زقاق) و (حديقة في الصيف) أي أنه نقل الكتابة من نصيّة الحكاية إلى فاعليّة الخطاب، أو بصورة أدقّ من الكلام الحكائي نحو اللسان الحكائي، كي يستوعب نصّه الفاعل في ذاته المستقلة كل عموم الخطابات القصصيّة والنقديّة والمرجعيّة، ويلقيها في فضاء العالم اللامتناهي، أحسن صناعة التأويلات نعم، وقاد بلاغة الكتابة لديه إلى أن تمنح سيرته الذاتيّة عمقاً إبستمولوجياً مهماً، لينتقل من حكّاء ماهر إلى ناظم نصّي، من عالم افترضه حكاية وقصة وسرداً، نحو عالم حقيقي يملؤه بالعلامات الأيقونيّة، بمعنى أنه يتعامل مع المعنى الذي يولده الخطاب في متوالية الشرح والتفسير بوصفه سرديات ذات تعالقات لفظية بصرية، إنه أراد أن يكون السرد عنده لا يفارق الكتابة بل يستدرجها إلى عالم النص المرجعي في الإحالة في جوهر الخطاب.