من الذي قتل الصحفية شيرين أبو عاقلة؟

قضايا عربية ودولية 2022/06/06
...

 ترجمة: أنيس الصفار         
على مدى السنوات الخمس والعشرين التي قضتها في العمل صحفية لقناة الجزيرة غطت شيرين أبو عاقلة كثيراً من الصدامات التي وقعت بين الإسرائيليين والفلسطينيين، لذا كانت قد اتخذت جميع الاحتياطات التي يتطلبها الموقف وهي تتوجه إلى مدينة جنين في الضفة الغربية المحتلة صباح يوم 11 أيار لتغطية عملية الجيش الإسرائيلي في أحد مخيمات اللاجئين، فوضعت على رأسها خوذة وغطت جسمها بدرع واق كتبت عليه بأحرف كبيرة كلمة "صحافة". 
عند مدخل المخيم وقفت شيرين مع مجموعة من الصحفيين الآخرين، وعلى الفور لفت حضورها الانتباه لأنها كانت معروفة لدى جمهور المتحدثين بالعربية بحيث اجتمع حولها حشد من الناس يراقبونها كيف تعمل.
بيد أن الصحفيين تعرضوا لإطلاق نار أثناء إعدادهم تقاريرهم فقتلت السيدة أبو عاقلة، وهي مواطنة أميركية، برصاصة أصابتها في الرأس. أصيب كذلك الصحفي علي السمودي برصاصة في الظهر ولكنه نجا من الموت، رغم ارتدائه هو الآخر سترة مميزة مكتوب عليها كلمة "صحافة".
لقد مرت أكثر من ثلاثة أسابيع منذ أن لقيت السيدة أبو عاقلة مصرعها، مع ذلك .. وبرغم هبّة الغضب الدولي ومناشدات جهات عديدة من بينها وزارة الخارجية الأميركية ومنظمات حقوق الإنسان الإسرائيلية والمفكرين وأعضاء المجتمع المدني لإجراء تحقيق وافٍ في مسألة وفاتها وفي الادعاءات التي تزعم أنها ما قتلت إلا لأنها صحفية، لم يبدأ أي تحقيق رسمي أصولي من قبل جهة خارجية غير منحازة، وبقي العالم إلى اليوم شبه جاهل بالطرف المسؤول عن مقتلها. عائلة السيدة أبو عاقلة وزملاؤها وكل مهتم بحرية الصحافة باعتبارها عموداً من أعمدة قيام الديمقراطية يستحقون أكثر من هذا بكثير. 
جاء رد الفعل الأولي على حادثة القتل مثيراً للقلق. فبعد يومين على مقتلها أعلنت نتائج تحقيقين أوليين، حيث وجهت السلطة الفلسطينية اتهاماً يقول إن السيدة أبو عاقلة، 51 عاماً، قد استهدفت من قبل الجنود الإسرائيليين، بينما قال الجيش الإسرائيلي إن هناك دائماً خطر إصابة غير المقاتلين خلال أي اشتباك مسلح، مضيفاً أن الإطلاقة القاتلة ربما كان مصدرها نيران عشوائية أطلقها الفلسطينيون أنفسهم، أو قد يكون مطلقها قناص إسرائيلي. في يوم مقتلها ألمح متحدث باسم الجيش الإسرائيلي إلى أن الصحفيين أهداف مشروعة، حيث نسبت صحيفة "تايمز اوف إسرائيل" إلى المتحدث قوله في مقابلة مع إذاعة الجيش الإسرائيلي إن السيدة أبو عاقلة كانت "تصور وتعمل لصالح جهة إعلامية وسط فلسطينيين مسلحين" وأضاف: "اسمح لي أن أقول إنهم مسلحون بالكاميرات".
من خلال هذا التعليق يبدو أن إسرائيل تشكك أصلاً بدواعي تواجد الصحفيين في الضفة الغربية وتنفي الدور المهم الذي يضطلع به المراسلون الشجعان المستقلون، مثل السيدة أبو عاقلة وأشباهها، في الوقوف شهوداً على العنف الذي أخذ بالتصاعد في الأسابيع
 الأخيرة.
في واقع الأمر إن على الإسرائيليين إبداء اهتمام أكبر بما حدث للسيدة أبو عاقلة، لأن الأنظمة الديمقراطية تتطلب وجود الصحافة الحرة كمقوم أساس لعملية الحكم الذاتي القائمة على المعرفة وحسن الاطلاع. على إسرائيل أن تكفل سلامة الصحفيين العاملين لديها وفي المناطق المحتلة.
بعد حادثة القتل بيومين تجلت التوترات بأفصح صورها حين هاجم ضباط الشرطة الإسرائيلية المشيعين الذين بلغ عددهم بضع مئات في موكب جنازة السيدة أبو عاقلة أثناء مسيرتهم في القدس الشرقية، الأمر الذي كاد يتسبب بسقوط النعش من إيدي حامليه. أظهرت مقاطع فيديو عديدة كيف هاجم ضباط الشرطة المشاركين في التشييع بالهراوات وقنابل الصوت، حتى بدا أن الشرطة الإسرائيلية كانت تريد منع تحول موكب التشييع إلى تظاهرة وطنية وقالت إن الضباط قد اتخذوا إجراءاتهم بحق جماعات غوغائية استولت على النعش وكانت تحاول القيام بمسيرة راجلة انتهاكاً للخطة التي أقرّت سلفاً.
انتقل اهتمام التحقيق الآن إلى الأدلة الجنائية، وهنا أيضاً وقف الطرفان موقف المواجهة. فالسلطة الفلسطينية تقول إن الرصاصة التي قتلت السيدة أبو عاقلة موجودة في حوزتها، في حين تقول الحكومة الإسرائيلية إنها ربما تكون قد ضبطت البندقية التي أطلقتها. حين يجرى الفحص على العلامات المتخلفة على الرصاصة ومطابقتها مع حلزنة ماسورة البندقية سوف يمكن تحديد ما إذا كان مطلق الرصاصة القاتلة إسرائيلي.
في يوم 26 أيار وبعد أسبوعين من التحقيقات اتهمت السلطة الفلسطينية الجنود الإسرائيليين بقتل السيدة أبو عاقلة عن عمد. خلص تحقيق السلطة إلى أن رصاصة عالية السرعة من عيار 5,56ملم أطلقها جندي إسرائيلي كان يتمركز في وسط الشارع قد أصابتها أثناء محاولتها الاستتار من النيران الإسرائيلية. بيد أن إسرائيل رفضت تقبل أية تلميحات بأن عملية القتل كانت مدبرة ووصفت الإدعاء بأنه "كذب فاضح". 
في الولايات المتحدة دعت وزارة الخارجية أيضاً إلى إجراء تحقيق. ففي الشهر الماضي قال "نيد برايس" المتحدث باسم الوزارة: "من المهم بالنسبة لنا، ومن المهم للعالم بأسره، أن يكون ذلك التحقيق كاملاً وشاملاً، وأن يكون شفافاً .. لكن الأهم من ذلك هو أن تفضي التحقيقات إلى مساءلة كاملة وأن يتحمل المسؤولون عن مقتلها تبعة ما اقترفوه". وفي مجلس النواب وقع 57 نائباً ديمقراطياً خطاباً موجهاً إلى وزير الخارجية ورئيس مكتب التحقيقات الفدرالية "أف بي آي" طالبوهما فيه بإجراء تحقيقهم الخاص وحثوهما على إعلاء القيم التي قامت عليها الأمة الأميركية بما فيها حقوق الإنسان والمساواة بين الناس جميعاً وحرية الكلام. تابع الخطاب قائلاً: "من واجبنا حماية الأميركيين الذين يبعثون بالتقارير في الخارج".
من جانبها باشرت شبكة "سي أن أن" ومؤسسات إخبارية أخرى إجراء تحقيقاتها الخاصة. فبعد مراجعة مقاطع الفيديو وشهادات الشهود وتحليل الأدلة الصوتية للإطلاقات خرجت "سي أن أن" بتقرير يقول إن الأدلة توحي بأن أبو عاقلة قد أرديت بهجوم استهدفها من قبل القوات الإسرائيلية. إضافت الشبكة أن الشهود ومقاطع الفيديو قد قدموا أدلة جديدة تثبت عدم وجود نشاط مواجهة أو مقاتلين فلسطينيين على مقربة من أبو عاقلة في اللحظات التي سبقت 
مقتلها.
جاء رد الفعل الإسرائيلي حاداً. ففي خطابه أمام المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس بتاريخ 25 أيار رفض الرئيس الإسرائيلي "إسحق هرتزوغ" ما أورده التقرير وقال إنه مستند إلى "حقائق مزيفة".
هذا كله يرفع من أهمية الحصول على إفادات كاملة دقيقة، وأفضل السبل للوصول إلى هذه الحقائق يكون من خلال إجراء تحقيق مستقل تشارك فيه مجموعة من الأميركيين والإسرائيليين 
والفلسطينيين.
في 20 أيار صرح سفير إسرائيل لدى الولايات المتحدة بأن إسرائيل قد دعت منذ البداية إلى إجراء تحقيق محايد إسرائيلي فلسطيني مشترك وحضور الولايات المتحدة بصفة مراقب.
الاستقلال في تقص للحقائق مثل هذا مطلب عسير بكل تأكيد. فالفلسطينيون، المقتنعون بأن إسرائيل لابد أن تحاول تبييض وجه عملية القتل، أعلنوا منذ البداية أنهم لن يتعاونوا مع أي تحقيق تجريه إسرائيل. وفي إسرائيل، التي تواجه منذ عقود إدانات من جانب واحد على يد الأمم المتحدة وغيرها من الوكالات الدولية، ثمة شعور عميق بانعدام الثقة بأي تحقيق خارجي. كما أن اليمين السياسي الإسرائيلي لا يكن نظرة لطف لأي جماعات تتولى القيام بالتحقيق.
قد يبقى من الصعب إيجاد اجوبة للأسئلة التي تحيط بمقتل السيدة أبو عاقلة، ولكن ذلك ليس عذراً لتجاهلها. المراسلون يدركون جسامة الأخطار التي تنطوي عليها تغطية النزاعات المسلحة، وهم يعلمون أيضاً ان الجيوش لن يسرها أن يتكشف للرأي العام ما تنطوي عليه مهماتها من عنف. لكن عمل الصحفيين أساس جوهري للمحاسبة الجماهيرية لأي بلد وجيش في العالم. الصحفيون لن يتمكنوا من أداء عملهم إذا كانوا سيستهدفون من قبل أي طرف في الصراع بلا محاسبة، وحتى لو لم تكن شيرين قد استهدفت عمداً يبقى على إسرائيل أن تتحرى كيف وقع ما وقع وما الذي يمكن عمله لتجنب حدوث مآس اخرى مشابهة.
معرفة ما الذي حدث حقاً في مخيم جنين للاجئين أمر مهم يتجاوز الضفة الغربية بكثير، فتلك الحقائق ستساعد في تعزيز الرسالة، للحكومات وللقوات معاً، بأن الواجب يفرض حماية غير المقاتلين في مناطق النزاع، بمن فيهم الصحفيون والعاملون الطبيون والمدنيون الذين يحملون دلالات تعريف واضحة.
شهرة السيدة أبو عاقلة كصحفية، وجواز سفرها الأميركي، ساهما في تركيز الاهتمام واسعاً على حادثة مقتلها، ولكن العشرات من الصحفيين الآخرين يفقدون حياتهم من دون أن تثار حول الأمر ضجة. تفيد قاعدة بيانات "لجنة حماية الصحفيين"، وهي منظمة لا ربحية، أن 511 صحفياً قد قتلوا ما بين عامي 1992 و2022 في أحداث تبادل إطلاق النار أو أثناء قيامهم بمهمات خطيرة، وأن 347 منهم كانوا ضحايا حروب. في أوكرانيا أيضاً يقتل الصحفيون وبعضهم قد يكون عن عمد.
سوف تحسن السلطة الفلسطينية وإسرائيل والولايات المتحدة عملاً إذا ما اتفقوا على اختيار محقق مستقل كي يتولى تحديد الطرف الذي أردى السيدة أبو عاقلة والتثبت مما إذا كانت قد استهدفت عمداً بسبب عملها كصحفية. لقد قدمت هذه المرأة لكثير من الصحفيين المتطلعين، ومن بينهم نساء، أرفع مثال للتغطية الإخبارية الشجاعة الأمينة، وخير تأبين لحياتها وعملها سيكون التحقق من ألا يضيع موتها وسط ضباب الكراهية والاتهامات المتبادلة، بل أن يجعل ضماناً لأمان جميع الصحفيين الذين ينشدون اختراق حجب ذلك الضباب. 
 
 هيئة تحرير صحيفة 
«نيويورك تايمز»