الأنثى وريثة الماضي المقدَّس

ثقافة 2022/06/07
...

 ناجح المعموري
لم يكن صعباً الاقتراب لصاحبة الحانة التي وصل إليها جلجامش وهو في طريقه للبحث عن الخلود، بعد اغتيال صديقه أنكيدو، التقى بــ «سيدوري» صاحبة الحانة، التي خافت منه عندما رأته مغبراً، مرتدياً ملابسه الوسخة. صعدت فوق الحانة هرباً منه.
 
قالت له: 
يا جلجامش، إلى أين تهيم؟
إنَّ الحياة التي تبحث عنها لن تجدها 
فحينما خلق الالهة البشر.
حددوا الموت للبشر 
ومسكوا الحياة بأيديهم 
«أما» أنت يا جلجامش، فليكن كرشك مملوءاً 
ابتهج على الدوام، صباحاً ومساءً
أقم احتفالاً في كل يوم 
أرقص وألعب صباحاً ومساءً
لتكن ثيابك نظيفة 
ليكن رأسك مغسولاً، لتكن (دائماً) بالماء 
أرح الصغير الذي يمسك بيدك 
لتسعد القرينة بحضنك 
فكهذا هو سفر البشرية. 
بهذا المقطع المهم من ملحمة جلجامش، الذي وظفته التوراة أيضاً، لتأكيد حيوية العيش بسعادة وممارسة المتع واللذائذ فهي الحياة التي يريدها الإنسان، فضلاً عن عشق الزوجة والنوم معها وتدليل الأطفال. وصول جلجامش إلى «سيدروي» صاحبة الحانة، ساعياً لمن يهديه للوصول لاوناشيم.. وجرى حوار طويل بينهما وهو النص السابق. 
إنَّ الحانات موجودة في أماكن عديدة حتى في المناطق الخطرة والتي يصعب الوصول إليها، وهذا يؤكد بأن وجود الحانات يضمن مورداً اقتصادياً للعيش وحتما توجد فيها نساء مشاعات، لأنّ إشارة «سيدوري» لجلجامش بالاهتمام بالقرينة وإسعادها تلميح إلى وجود بغي مشاعة في الحانة، وأهم الملاحظات المتسربة لنا من هذا المقطع الملحمي هو عقل سيدوري وما تتمتع به من حكمة وخبرة ومعرفة بالحياة وآليّة التصرّف، من أجل ضمان حياة هانئة وسعيدة. 
ويبدو بأنَّ ما توفرت عليه سيدوري من حكمة ينطوي على شفرة وجود وظيفة دينيّة لها، قبلاً أو بعد وجودها في الحانة. فضلاً عن أنها تؤدي عملاً آل إليها من الأم الكبرى والكاهنات، لأنَّ العمل في الحانة أنثوي، ورثته من الأم التي اخترعت الخمرة بعد أن توصلت إلى الكيمياء.
كما أنَّ الخمر المستحلب من الثمار، والمخدر المستخلص من الأعشاب المقدّسة يساعد على ولوج عالم الليل والتحرر من عالم النهار، فكما أعطيت عشتار حبوباً ونباتاً، معاشاً للإنسان، كذلك اودعت في نتاج الارض سراً من اسرار الألوهة ونذراً من جنات الخلد. 
فالمخدر يهب المربد مركبة سحرية تجتاز به تخوم الصحو نحو العوالم المقدسة، يحرره من كثافة المادة، وشروط الواقع ليضعه على مشارف الالهي، وتخوم الحرية، في بارقة مؤقتة هي قبس من ملكوت آت، لذلك كانت نبتة الخشخاش التي يستخلص منها اقوى انواع المخدرات رمزاً من رموز الام الكبرى، في ثقافات المتوسط وفي ثقافات بعيدة تماماً، كثقافة الازتيك في امريكا الوسطى. ونجد الأم الكريتيه الكبرى جالسة تحت شجرة الكرمة التي تتدلى عناقيدها وقد حملت بيدها باقة من نباتات الخشخاش.
ولقد اعطت عشتار اول ما اعطت سر المخدر إلى المرأة التي اكتشفت كل أسرار مملكة النبات، فصنعت الغذاء واستحضرت الدواء واستخلصت السموم، اكتشفت أيضا نباتات المخدر وعرفت خصائصها واستعمالاتها المختلفة. وما زالت نساء القبائل البدائية حتى يومنا هذا موكلات بتحضير الاكاسير المخدرة، حافظات لأسرارها. 
وهناك من الأدلة ما يشير إلى أن نبات الخشخاش قد تم استخدامه منذ العصر الحجري أبان العصر الجليدي، ومنذ ذلك الوقت استمر تناول المخدرات باعتبارها طقساً اساسياً من طقوس ديانات الخصب في الشرق الأدنى القديم وثقافات المتوسط. 
سكر ومخدر موسيقى ورقص، تلك هي عدة الغيبوبة العشتارية التي تعبر بالمريد من جفاف الشمس إلى نداوة القمر. كانت عبر تاريخ الثقافة الذكرية، وسيلة للتمرد والحلم تمرد على النظم العقلانية المسيطرة التي تجعل من الفرد عبداً مسخراً للقوى الاجتماعية الطاغية ودياناتها البطريركية، وحلم بعالم أمومي جديد وفردوس عشتاري أرضي يُعيد للجسد الإنساني قدرته على اللعب الحر.
يتبعن كاهنات ديونيسيوس اللاتي يتخلصن من عبادتهن لهذا الرب، ويتبعن الطرق الخاصة بطائفة مريديه ومخلصيه إلى مرحلة القداسة هن خلال تقطيع أوصال الحيوان كأضحية والذي يمثل الشكل البدائي لكبش الفداء الذي تحول لاحقاً إلى (التضحية بالملك) والذي يفدي الأرض وعالمها بموته، إذ يقمن الكاهنات بمشاركة لحم الحيوان والنبيذ والرقص عاريات بنشوة في طقوس عباديَّة خاصة. 
استعاد الرجل الكامن في اللاوعي الجمعي الادخال الذِّي والذي ظلَّ مستمراً ومحميّاً بقداسته وتمثيل الإله أو الملك من أجل حماية الحياة والمحافظة على ماضيها ودعم ديمومتها. فالاتصال الجنسي ليس فرصة لتسريب الشحنات الأنثويَّة والذكريَّة، بل هو إيقاظ الخيال وتفعيل التخيّل حتى يتحول الفعل من ممارسة يوميَّة إلى أسطورة، يدعمها العقل الجمعي من أجل البقاء والديمومة.
فالصلة بالعالم المنظور غير كافية لخلق نجاح مثل هذه الطقوس، إنَّها بحاجة لتتألق مع تيار عنيف من العوامل السايكولوجية، لخلق أنظمة علاقية بالعوالم الروحيَّة، فكل شيء من بنية هذه «الدراما» يعمل بقانون الاستعطاف.. فالتشكيل «حدسي» متحرر من ضغوط القيود الحسيَّة. وهو محمل بطاقة روحيَّة مهيمنة، حين يضايف بين المادي والموضوعي، بحيث أن «الخارجي» لا يكون له مبرر وجود، إلا أن يكون تعبيراً عن الداخلي. فهناك عالم ذاتي ليس أقل واقعية، ولا أقل حقيقة من العالم، الذي يعتبره الحس المشترك عالما موضوعياً. 
تصاوير تمثيلات الاتصال الجنسي هي إيقاظ لما هو كامن في خزان الذاكرة، وظل متحركاً، وممتداً حتى وصل الحاضر وسيحتفظ بسيرورته ويكرر دورته مرة أخرى.
وجدت في التمثيلات التصويريّة خصائص دينيّة مستعادة من الماضي بوصفها طقساً للزواج الإلهي وأيضا لها ميزة اجتماعية. فيها تمجيد للقدرات الخاصة للفنان العراقي والذي أعاد تنفيذ اتصاله بعشيقته أو زوجته أو الفتاة المشاعة في الحانة أو مكان آخر، وما لفت انتباهي وأنا أتابع تمثيلات الأنثى العارية هو الوجه المستطيل ــ هذه النسبة الأكثر ــ وأعتقد بأنَّ ذلك بفعل تكرر الأنموذج.
الفتاة في هذا العمل النحتي «صورة للإلهة».. بل قالباً تتخفى في جوفه شارة القدسيَّة، إنّها بمثابة رمز احتفالي لقوى الأنوثة والخصب في الوجود. وذلك يتكشف شيئاً فشيئاً: بفعل التأمل الحيوي في منطقة تقع بعد «حضور» صورة التمثال، حين يتحرر «البشري» من حالة الإنسان، ليتوحد مع أشكال الآلهة. 
احتلت العينان منذ العصر السومري وحتى عصر حمورابي: اهتمام الفنان بتقنيات إظهارهما في بورتريهات التماثيل.. بوصفها العنصر المشفر عن أهمية الشخصيات ــ فهما البصر والبصيرة في نفس الآن.. ولذلك تمَّ تطعيمهما بأحجار ملوّنة وبراقة.. الأمر الذي فعل الخاصية التعبيرية للتمثال: ليقدم خطابه الفكري في «دراما» المشهد خارج حضوره الواقعي، فقد امتصت مخيلة النحات البابلي المبدع فكرة الموضوع. وأعادت إخراجها على وفق نظام الشكل التعبيري.. ولذلك انعكاس لذات الفنان الحرة الكاشفة المؤولة. إذ هيمنة خاصية تجميع الخامات في شكل العينين. 
العري الكلي ليس مستحبا في هذه الحالة، وذلك أن الشهوة ليست في الجسد، بل هي في العين التي تود أن تذهب إلى ما تخفيه قطعة الثوب الباقية. 
تلك هي وظيفة العري في التمثيل البصري، وفي كل حالات الاستيهام، إنّه يضع الجسد خارج الوجود الثقافي، وإنّه يحضر في العين وقد تخلص من كل شيء بعدها سوى اللذة «فهو الشيء ذاته، إنّه موجود في ذاته، إنّه جوهر بعبارة أخرى، إنَّ العري يمزج بين الإنسان والطبيعة حتى يجرّده من المضاف اللباسي، إنه يعيده إليها». ذلك أنَّ الإنسان وحده من بين كل الكائنات الأخرى، من يعي رسالة العري باعتبارها عودة إلى أصل أولي بالإيحاء الديني. فآدم وحواء عاريان في وعينا وبالإرادة، فنحن نأتي إلى الحياة عراة ونتعلّم كيف نلبس بعد ذلك. 
مهارة رسم/ أو نحت العينيين بهويتهما السومريَّة واضحة وهي متكرر في أكثر التمثيلات النحتيَّة لجسد الأنثى العارية وأيضاً ــ المكتسيَّة ملابسها. وذكرتني مهارة الفنان بالعينين الواضحتين في وجهي الرجل والمرأة بــ «عين غزال» القرية الأردنيَّة ذات التأثر السومري ولهذا الثبات لشكل العينين له دلالة ومعنى، إنَّها الجمال الذي ينطوي عليه إتساعهما وطولهما المثير. وكأنَّها تبرز في اللحظة التي يحصل فيها الاتصال بالطرق الجسديَّة العديدة والمتنوّعة.