في أدب الرحلات..ذاهبٌ للهند بحثاً عن شخصيَّة في رواية

ثقافة 2022/06/07
...

 سعيد الروضان
بدأت جولتي صباح هذا اليوم، 25 مايو في مدينة كلكتا الهنديَّة للبحث عن «ف سوامي» الذي ذكره محمود أحمد السيد في روايته «جلال خالد» ص7، إذ يقول «كما استندت في كتابتها إلى أحاديث الكاتب الهندوي ف. سوامي – وهو من أركان القصة- التي حدثني بها في الهند، ولا تعجب، فقد قدر لي أن أزور الهند كما زارها صاحبي جلال خالد، وأن أعرف صاحبه سوامي كما عرفه، وأن أصاحبه وأجالسه وأحاوره كما صاحبه وجالسه وحاوره». 
 
نمت فكرة العثور على “ف سوامي” في الوعي واللاوعي زمنا طويلا، وتجددت بقوة. ذهبت مرة مصاحباً صديقي الرحالة حمدي العطار إلى وكالة السفر في بغداد لإنجاز إجراءات رحلته إلى الهند، استقبلنا مدير وكالة السفر بحفاوة، وكان المشاركون سبعة أشخاص، وإضافة شخص ثامن يعزز المجموعة، بادرني حمدي العطار قائلاً: (ماذا تقول أستاذ الفرصة مواتية لزيارة الهند، بس اعطس!!).                                                                                           
  لم انطق بأية كلمة، افترقنا على أمل أن نلتقي غداً، كنا نتابع معاً اصدار كتابه النقدي “ملامح الشخصيَّة في الرواية العراقيَّة”. في البيت توهّجت فكرة الذهاب إلى الهند، هذا البلد الذي لا أعرف عنه شيئاً، سوى نكتة أطلقها رئيس جمهورية سابق، عند زيارته للهند، وقال له المرافقون الهنود نرجو أن تتذكرنا، فردَّ عليهم على الفور، قابل أنا هندي!! لكن فكرة البحث عن “ف سوامي” ظلت تلاحقني عند الكتابة ومشاهدة التلفاز، بل حتى مع تناول الطعام. 
في اليوم التالي التقيت حمدي العطار في شارع المتنبّي، قلت له لقد عطست. تنبه حمدي لكلماتي، وقال لي: (نروح إلى مكتب وكالة السفر).. أتذكر مشينا أكثر من نصف ساعة.. في المكتب قدمت جواز السفر والأوراق الثبوتيَّة ومبلغ 100 دولار لإثبات الجديَّة. 
في اليوم الثاني كانت الفيزا الهنديَّة على صفحة جواز السفر خاصتي. حلقت بنا طائرة الخطوط العربية إلى الشارقة ومن ثم إلى دلهي عاصمة الهند، في صالة المطار استقبلنا شبان هنود بقلائد ورد عطرة، الرازقي الناصع البياض والشبوي بلون البرتقال، طوقوا بها أعناقنا مع كلمات الترحيب والمجاملات اللطيفة، زرنا معالم دلهي، معبد السيخ، معبد الهندوس ومسجد المسلمين. 
في الليل كان حمدي يحرر المقالات على الهاتف النقال وأنا أقوم بقراءتها وابداء الملاحظات وحمدي يتقبلها برحابة وروح أخوية، بعدها زرنا مدينة أغرا حيث تاج محل بكل الروعة التي بذل فيها المعماريون والعمال وكل ما يملكون من حرفية ليكون من روائع الإنسانية ومثالا خالدا للحب، ثم زرنا مدينة جايبور، ركبت مع حمدي على ظهر الفيل الذي كان هادئاً، ولم يبذل السائس جهده في قيادته، بل كان يعرف طريقه الملتوي مثل أفعى كوبرا مستوفزة، لكن الشخص الذي رافقنا بضراوة الجائع، ذلك الشاب النحيف الذي أصرَّ على بيعنا تماثيل خشبيَّة صغيرة بذل جهوداً كبيرة في نحتها، وقد دفعتني هذه الصورة أن اكتب قصة قصيرة بعنوان “جاجا” وهو اسم الشاب الهندي الذي رافقنا كظلنا عند امتطاء ظهر الفيل.   
  تسارعت الأيام لتنقضي، ها هو يوم 9 مايو يعلن عن سفر المجموعة بأكملها، جاء من يعلمني بوجود السيد اشتوش مدير شركة السياحة التي تعمل على كامل الساحة الهندية، كان حمدي العطار حاضرا، أعلنت عن نيتي في البقاء لفترة لم أحددها، غادرت المجموعة إلى بغداد، ودعتهم كأخوة أعزاء، ولم اكن وحيداً فقد كان “ف سوامي” معي يرافقني في حلي وترحالي، أتكلم عنه وأتكلم معه، وظلت لازمتي تعلن عن نفسها بلغة إنكليزية أجيد التعبير بكلماتها المحببة إلى نفسي.. قدم محمود أحمد السيد إلى الهند على ظهر سفينة تجارية من البصرة إلى بومباي عام 1919، والتقى في مدينة كلكتا بالمفكر الاشتراكي والكاتب القصصي الهندي “ف سوامي” الذي أوصى به حسين الرحال المفكر العراقي وصديق محمود أحمد السيد، وقد أثر “ف سوامي” على كاتبنا العراقي وجعله يؤلف أول رواية عراقية بعنوان “جلال خالد” سنة 1928، وإن حسين الرحال هو جلال خالد الشخصية الرئيسة في الرواية. 
ثم أقوم بعرض الرواية على الناس الذين تحدثت معهم وهم كثر، تحدثت مع الكاتب القصصي الشاب، في مكتبة DC Books في ولاية كيرلا وقد وعدني بالبحث، أهداني مجموعته القصصيَّة وأهديته كتابي المكتوب باللغة الإنكليزية  From a Bank to Another. غير أن الصناعي عبد الرشيد شاه مالك مصنع السجاد اليدوي في كشمير، الذي يتمتع ببساطة محببة وهو بسن الثمانين، استمع بشغف اليّ عند زيارتي الليلية للمصنع، وعرفت أنه خريج قسم التربية في جامعة دلهي، وبدأت بطرح لازمتي المعهودة “قدم محمود احمد السيد........ “ وهنا أخبرني الصناعي عبد الرشيد شاه بأن الشخص الذي أبحث عنه يحمل اسما بنغالياً ويمكن أن أجده في جنوب الهند، ربما في كلكتا. وهنا توجب عليّ أن أتصل بالسيد اشتوش ليوفر لي تذكرة طائرة وسيارة يابانية مع سائقها ومرشد سياحي يجيد اللغة الإنكليزية، وبالفعل تم ما أردت بعد دفعي الأموال المطلوبة بالدولار، وفي اليوم التالي كنت في مدينة كلكتا.
  أطل علي المرشد السياحي، وهو على شيء من القصر، بنظارة طبيَّة وشارب كث فضي، رحب بي وقال نادني “آلو” فإن اسمي الرسمي طويل، وكان بصحبة “راكيش” السائق الشاب بشارب أسود ولحية كثيفة. 
تحمس “آلو” لفكرة البحث عن مفكر هندي أسهم في ظهور أول رواية عراقية، اقترح عليَّ أن نتوجه إلى المكتبة الوطنية، بعد دقائق كانت سيارتنا اليابانية من طراز تويوتا سبعة راكب 2015 تمرق إلى باحة المكتبة الوطنية الواسعة، في وسط الحديقة، كان اسم المكتبة الوطنية مكتوبا بحروف إنكليزية  Library  National   بنباتات طبيعية مشذبة يمكن للعين أن تقرأها وتمنح القرّاء ارتياحا سريّاً.   
تقدمنا قليلاً، لاح لنا تمثال الشاعر الكبير رابندرانت طاغور، التقط لي “آلو” صورة رائعة.
دخلنا المكتبة المركزية، كانت هناك منتسبة للشرطة تجلس على كرسي وسط الصالة، كررت على اسماعها لازمتي التي تبدأ بـ «قدم محمود أحمد السيد إلى الهند عام 1919 ....» سمحت لنا بالدخول بشرط عدم التقاط الصور، قلت لها إني قادم من العراق، ومن بغداد على مسافة آلاف الكيلومترات ولا تسمحين لي بالتصوير!! وافقت وكانت أول صورة لشخصيتها الكريمة، والصورة الثانية لشاعر الهند الكبير في لوحة مرسومة بالوان الزيت وبحجم مضاعف لحجمه الطبيعي. 
استقبلتنا مديرة المكتبة، عرضت لازمتي مرة أخرى، كلفت أحد الموظفين بالبحث عن « ف سوامي»، بذل الموظف جهدة مع الملفات والحواسيب ولم يعثر على خيط يقودنا إليه، عدنا إلى المديرة التي اقترحت علينا الذهاب إلى قسم الأرشيف. استقبلنا الدكتور ساراتي داس 43 عاماً، وهو يحمل شهادة الدكتوراه في علوم المكتبات وله مؤلفات عديدة، ولم تسفر جهوده عن الحصول على اية معلومة تكشف لي شيئا عن شخصية «ف سوامي» وأخبرنا أن نتوجه إلى الأكاديمية الأدبية المرجع الأساس لجميع كتاب الهند. 
التقينا في الأكاديمية الأدبية مديرها الشاب سبرداز 36 عاماً، الذي تحمس لفكرة البحث عن “ف سوامي”، وكان للمرشد السياحي دور في تأجيج هذا الحماس عندما اتصل بسيدة عراقية مسنة من أصول يهودية علها تعرف شيئاً عن محمود أحمد السيد أو حسين الرحال، بحث مدير الاكاديمية الشاب في “دائرة معارف الأدب الهندي” وانتقل مرات عدة إلى مصادر متنوعة فلم يجد ما نصبو اليه. خرجنا متعبين وغير آسفين على انفاقنا ساعات في البحث والتنقيب، فهذا ديدن الباحثين عن الحقيقة. ولا بد لنا أن نلهج بالشكر والعرفان لكل من قدم لنا يد المساعدة. 
عظنا الجوع بنابه، طلبت من “آلو” أن يقودنا إلى مطعم قريب، توجهنا إلى مطعم “الرويال” في شارع سيد أمير علي، كما هو مدوّن على لوحة معدنية مثبتة على ركن الشارع، طلبنا الكباب وكانت حرارته (تشلوط الفم)، لكنني اعتدت على ذلك، بل إن طعاماً دون سبايسي لا يُعد طعام. بعدها اتصل “آلو” بصديق له اسمه “ديب” وراحا يرطنان بلغة هندية، لكنني التقطت كلمتين نطق بهما ذلك الصديق وهو يقول “جلال كالد” ادركت حينها كوة الأمل، قلت للمرشد “آلو” لنذهب إلى صديقك، فرد علي بهدوء: حددت معه موعداً الساعة الثالثة والنصف في دار النشر التي يديرها. 
 
العثور على “ف سوامي”
  أحاط الناشر “ديب” بموضوع “ف سوامي”، فتح حاسوبه وراح يبحث ويغير اتجاه البحث عدة مرات، ثم يلتفت نحو المرشد “آلو” يشاوره فيما توصل إليه من نتائج غير مشجعة، وأنا أتابع كل نأمة تصدر وكل همسة تدور، وعلى حين غرة سمعت صوت كلمات محببة بجرس موسيقي ينم عن الفرح، توجه الناشر “ديب” نحوي قائلاً: لقد عثرنا على “ف سوامي”، لكن الاسم لا يبدأ بحرف F بل بالحرف V. فكرت قليلاً وعلقت على ما قاله: ذلك صحيح فنحن في اللغة العربية نكتب كلاً الحرفين (F and V ( بالحرف العربي (ف)، وعندما نشر محمود أحمد السيد روايته “جلال خالد” عام .1928. استغرق عدة سنوات لإنجاز عملية الطبع وذلك يعود لعدم توافر مراحل التحرير والطباعة التي نشاهدها الآن. وبذل السيد جهوداً كبيرة، فلم ينتبه إلى مثل هذا الخطأ غير المقصود، وهل يمكن معالجة ذلك بقول السيد مثلاً (بحرف ف الخفيف). عرض الناشر “ديب” صفحة الحاسوب أمامي، وكانت تضم سبع مؤلفات V سوامي باللغة الإنكليزية مع صورة شخصية لرجل بين اربعينات وخمسينات عمره بلحية بيضاء ونظارة طبية، وثوب أسود ينسدل على سروال أبيض، كان يجلس هادئاً بمسحة وقار غير مفتعل على كنبة، متكئا على جانبها المرتفع، وهو يضع يديه على عصا على شيء من الضخامة وبعقفة كبيرة تستند على جانب الكنبة المرتفع قليلا، فيما ظهرت خطوط البساط الملوّنة الذي كان مفروشا على الكنبة، ويظهر في خلفيَّة الصورة جذع صقيل لشجرة مما يدل على التقاط الصورة في حديقة المنزل أو في منطقة زراعية. سارعت إلى التقاط صورة لصفحة الحاسوب خشية أن يحدث خطأ ما فيفسد جمال لحظة الاكتشاف.
 خاطبت الناشر”ديب” بود: شكراً لجهودك القيمة.. لقد عثرت على مفتاح اللغز الذي حيرني مدة طويلة وصدعت به راس زميلي في الرحلة حمدي العطار والكثير من الهنود الذين التقيتهم، وربما كان السبب الرئيس وغير المعلن لقدومي إلى بلاد الهند النائية، بعدها قام الناشر بتهجئة الاسم ( V بيرير سوامي 1879 - 1973)، علقت على كلامه: تاريخ ميلاده يناسب فترة اللقاء مع السيد، حيث كان عمر سوامي عندما التقاه السيد عام 1919، أربعون عاماً، وعمر محمود أحمد السيد ستة عشر عاما (14 مارس 1903 – 10 ديسمبر 1933)، وذلك مقبول منطقياً، ويدل على روح التحدي والشباب التي تمتع بها محمود أحمد السيد، رغم بساطة طرق المواصلات البحرية التي نقلته من البصرة إلى بومباي. ويظل السؤال قائما، هل كتب السيد يومياته في هذه الرحلة التي طال أمدها لأكثر من عام لينتج لنا كتاباً في أدب الرحلات، أم إن السيد اكتفى بالأعمال القصصية والروائية؟
 قدم  لي الناشر “ديب” قائمة بمؤلفات سوامي التي بلغ عددها سبعة مؤلفات باللغة الإنكليزية، من ضمنها كتاب لآلئ الحكمة ويحتمل أن يكون مجموعة قصصية، بحثت في مكتبة أكسفورد في كلكتا ومكتبات أخرى عريقة تأسست في القرن التاسع عشر فلم نجد أيا من كتبه. أما المرشد السياحي “آلو” الذي هزته مفاجأة العثور على ف سوامي، راح يتصل بمعارفه الذين أكدوا وجود أحفاد ف سوامي وهم أعضاء في البرلمان، ويسكنون في مدينة “جناي”، وهي مدينة أعرفها فقد هبطت فيها الطائرة التي أقلتني إلى دلهي من مدينة “كوجن” في ولاية كيرلا.
 عم الارتياح الصالة المزدانة برفوف الكتب، طلب الناشر مني أن أقرأ شيئاً من المقالة التي كتبها الناقد علي الفواز في نهاية رواية “جلال خالد”، قرأت ذلك مترجماً إلى اللغة الإنكليزية، لكنه طلب مني أن أقرأ النص باللغة العربية. أجبت طلبه وأخذت أقرأ والجميع ينصتون بما يشبه الخشوع، وقال الناشر “ديب” عندما انتهيت من القراءة: إن في لغتكم موسيقى عجيبة.
التقطنا صوراً جميلة بمشاركة زوجة الناشر “ديب” التي أضفت على الجلسة شيئاً من الألفة، بعدها قدم لي الناشر “ديب” هدية تعبر عن روحه المحبة للفن والثقافة، وكانت عبارة عن 12 لوحة فنية طبعتها دار النشر (براتشكن) مغلقة بأحكام، وهي نسخ مطبوعة للوحات فنيَّة أبدعها الشاعر رابنارانات طاغور واثنين من أبناء أخيه.