غسان غائب.. تحولات فن قابل للتأويل

ثقافة 2022/06/07
...

  خضير الزيدي 
 
يجتهد غسان غائب ثانية في الفن، ولكن هذه المرة بالابتعاد عن ممارسة الرسم ليتحول جهده وأسلوبه بطريقة مختلفة ترشدنا لفهم الفن وممارسته واقتراح ما متخيل من (نزعة شكل) تمدنا بأفكار تقتضيها مظاهر الخطاب الجمالي الذي يؤسس له هذا الفنان. إنَّه يعي أنَّنا في زمن بات كل ما فيه قابلاً للتحول والتجديد والتغيير، وأعتقد أنه هجر الرسم التقليدي لصالح الفكرة وليس الغرض إضافة أشكال ومواد غير منسجمة ليصنع منها عملاً ذا إدراك جدلي، لقد تداخلت في منجزه الجديد مواد من مثل (طباعة ديجيتال على قماش، معدن، كونكريت مع اكريليك، جذع لشجرة، تراب، وأسلاك) جميعها تم توظيفها ليستخرج صياغة عمل يعرضه لنا بدافع بث الأفكار وليس الاستعراض، هنا يجب أن نتساءل عن فهم ما يطرح؟، ولماذا يتم التركيب والتنصيب؟، وما الضرورة لهجرة الرسم والبقاء ضمن مستوى معين ينشدّ فيه الفنان لرؤية يوازن فيها بين قدرته من جهة ومخاطبة ذائقتنا من الجهة الثانية؟.. 
غائب لا يحبذ اللعب في الفن، إنَّما يوثّق لمصادر ذات طابع تأثيري في انتاج فنه، تقابل أعماله مساحة من التأويل كردّة فعل لنزعة تكتسب رهان وجدل مخاطبة الآخر عبر ما يتخيله من أفكار. 
لقد لاحظنا ذلك وهو يمدّنا بعمل كرسي الشاعر مظفر النواب بعد أن وظف طاقة اللون الأحمر بشكل ملفت وحدد للمتلقي وظيفة التعبير السيميائي بالاعتماد على شكل دال متكئ على ثلاث وحدات صوريَّة. الأولى نلاحظها في الكرسي نفسه، والثاني بقطعة مستطيلة من الخشب مركونة بتلقائيَّة، أما العنصر الثالث فهو الراية التي تقع على يمين المتلقي، ولو أمعنا كثيراً في مدلول العمل لتبيّن لنا بأنَّ العلامة التعبيريَّة ستتجه نحو ما أسماه (بيار غيرو) العلامة المنطقيَّة والتي تؤسس لدال (انتقائي، موضوعي، تماثلي)، هنا يمكن لرسالة عمل الكرسي واللوحة والراية أن تتغلب على ما يبرهن للمتلقي من علامات تعبيريَّة والتي تنتظم في أسسها لمقومات من مثل (التشابه، الذاتي، المحسوس، والطبيعي).. هذا الترحيل في وظيفة العلامة جعل من غسان غائب لا يختبر عاطفته في الفن، اشتغالاته الأخيرة خرجت من محاكاة المزج بين الذاتي والمحسوس والمبرر لتتوجه نحو اختبار من نوع الاهتمام بالعقل، وهذه وحدها عودة لاكتساب الفكرة وبثها من خلال أعماله المركّبة، ليس الاختبار في الطاقة التصويريَّة، ولا في اختلاق مبادرة وجود الرمز، ما يستعرضه لنا هذا الفنان يكمن في حقل السيمياء وما تتضمنه علامات الفن. 
إنَّه يفضّل المضمر على المعلن لكن بتناول متفاوت ومفهوم قابل للتأويل.. ما يقدمه ليس قليلاً، لكنّه محيّر للمتلقي إنَّه يشركنا لنعمل معا ولكل منا وجهته في طرح الأفكار وتأويلها. 
الأعمال الأخيرة تبنّت نشاطاً ذهنيَّاً منذ أن اهتمَّ بالرسم التجريدي وحمل الشكل تبعات قابلة للتغيير، فباتت صورة ما يعمل عليه مرتبطة بشكل وثيق بالفكرة اعتماداً على (طريقة العمل حيث التركيب/ الكولاج/ تقنيات 
الصورة). 
نحن أمام تبادل لمفاهيم الفن مع الاحتفاظ بالوحدات المتناغمة التي يبينها الشكل، في عمله الموسوم بـ (كوكبنا اليوم. فكر بالأخضر. جذع شجرة. اكريلك. وتراب 30 × 50 × 30 سم 2021). 
تتغير وجهة رؤيته ليوفّق بين مستوى التعبير الشكلي ومرجعيات فكرته لتبدو محاولة تقسيم العمل في سياق موحد اعتماداً على شكلين متناقضين الأول يشبه شكل الكتاب المطعم باللون الأخضر والعنصر الآخر مادة لجذع شجرة ذات طابع ترابي بلونها (العمل في الأصل علبة كبريت) إنه يقدم تصور العمل والمرجعيَّة الفكريَّة أمام مادة قابلة للاحتراق، وكأنه يريد القول إنَّ كوكب الأرض ممهد للسقوط والانتهاء.. وهذا الاشتغال تتجلى فيه حيويَّة بثِّ الفكرة وليس الاعتماد على الارتجال، عمله هذا يسترجع بذاكرتي إلى ما قدمه (بول كلي) في محاضرة له في تطوير الفن الحديث، والتي أشار فيها إلى تطوير العمل الفني وتحولاته بعد أن استخدم رؤيته التنظيريّة تشبيها لمؤثرات (الشجرة) هذه الفكرة طورها غائب وجعل من جذع الشجرة دالاً ومن الكتاب مطابقة بصريَّة ارتبطا الاثنان بقصديّة واعية مع أنّ التركيبين مختلفان، لكن الاستعارة الأسلوبية مثلت (فكرة عالقة في ذهنه) وهي الخوف على كوكب الأرض من الدمار. إنَّه صراع مرتهن على الانتقال من الجهل (الاحتراق) إلى العلم (الكتاب) ليتنقل بعد ذلك لعمل آخر (كرسي الشاعر حسب الشيخ جعفر) والهدف صريح في هذه المساحة من الاشتغال التعبيري، إذ لم يقترب من الغموض، ويُبين اقتباس فكرة الكتاب المطعّم باللون الأبيض كتمثيل واستعارة تشبيهيَّة يمهِّد لجوهر المدلول الذي يبثّه حيال قيمة هذا الشاعر الرمزيّة في هذا (العمل)، يشذّب ما يتعلق بالفن المزيّف من توجه، إذ يدرأ الخطأ المقصود ويبشِّر بتبادل لأنظمة عمل يوحي بقيمة الشاعر. 
وإذا عدنا إلى ما يعتمده أهل المنهج السيميائي، فإنَّ وظيفة أنظمة الرمز تؤدي حسب طرح (بيارغيرو) إلى وظيفة التصنيف والحساب، وهنا نتحسس ما يميّز هذا العمل في خطابه الجمالي والهندسي والشكلي وتمثيل العلاقات في وحداته وعناصره البنائيَّة. إذن ثمة مرجعيات ودلالة لم تكن اعتباطيَّة بل هي ركيزة أساسيّة أدت بإيجاز تعين ذلك التصنيف التعبيري لتبقى أعمال غسان قابلة للتأويل حتى لو مرّ عليها وقت طويل.