النصيّة أنموذجاً .. النقد بوصفه إجراءً

ثقافة 2022/06/07
...

 محمد صابر عبيد
تحدد هوية العمل النقدي في الجانب التطبيقي الإجرائي من الممارسة النقدية التي تجري على أرض النصوص والظواهر الأدبيّة، ولا نقد خارج ذلك مهما تعالى صوت النظرية التي هي في جوهرها الأساس عمل فلسفيٌّ ينهض به فلاسفة متخصصون، يتم تحويله إلى الفضاء النقدي على يد نقاد قريبين من فلسفة النظرية وعارفين بالكيفيّة التي يمكن أن تؤسس للمجال النقدي.
توفّر هذه النظرية مجموعة من الأدوات التي تحتاج إلى من يجيد استخدامها واستثمارها لتطوير العمل الإجرائيّ النقديّ في حقل النصوص والظواهر، ومن دون ذلك تبقى النظريّة معلّقة في فراغ حتّى تصفر وتذبل وتغيب فلا يتذكّرها أحد.
يحتاج العمل النقديّ الإجرائيّ لموهبةٍ واستعداد ثقافيّ ومعرفيّ رصين وذائقة شديدة الرقي ورغبة في الممارسة وخبرة تدعم ذلك كلّه، وهو ما يؤلّف ما نسميه «الشخصيّة النقديّة» القادرة على استيعاب منطلقات النظرية وتطويعها وتسخيرها لخدمة الممارسة، ومن دون حضور هذه الشخصية النقديّة الأصيلة والواضحة والقويّة فلا فائدة تُرتَجى من النظرية ومن الرؤية ومن المنهج ومن كلّ شيء، لأنّ هذه المفردات كلّها لا تعمل بالكفاءة النقديّة المطلوبة فنياً وجمالياً خارج هذه الشخصيّة النقديّة القادرة على وضع كلّ شيء في موضعه الصحيح والمناسب، بحيث تصل كفاءة الأدوات في ظلّ رعاية الشخصيّة أقصى درجة بوسعها أن تقول كلّ ما ممكن وضروري ومتاح ومناسب وحيويّ ومفيد وجميل.
يمكن مقاربة العتبات النصيّة في الدرس النقديّ الحديث بوصفها جزءاً أصيلاً من حيويّة هذا الدرس ومنهجيّته ورؤيته ونظريّته، وليس ترفاً كمالياً كما يعتقد من لا يعي خطورة هذه المفصل القرائيّ وأهميّته ودوره في البناء النصيّ وتشكيل الخطاب الأدبيّ، وقد أولينا هذا المفصل النقديّ عناية كبيرة في دراساتنا منذ وقت مبكّر في سياق دراسات نقديّة كثيرة على نصوص سرديّة وشعريّة وسيرذاتيّة، حتّى قبل أن تأخذ نظرية العتبات النصيّة موقعها في الدرس النقديّ الحديث على هذا النحو الواسع والثريّ الذي نعرفه اليوم، فقد أثارتنا قضية العتبات النصيّة وأدركنا أهميتها في تشييد البنيان النصيّ للنصّ الأدبيّ، وعرفنا علاقاتها المشتبكة مع المتون الأدبيّة من بداية النصّ حتّى نهايته.
وبوسع أيّ دارس لخطابنا النقديّ على مدى أكثر من ثلاثة عقود مقاربةَ هذه الرؤية النقديّة؛ من أوّل كتاب نقديّ صدر لنا في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي وهو يترك إلماحاته نحو هذه القضية النقديّة الجوهريّة، وما تبعه من كتب نقديّة أتت على هذه القضية النقديّة الجوهريّة في الأجناس الأدبيّة الشهيرة كافّة، من الخطاب الشعريّ إلى القصصيّ ثمّ الروائيّ وانتهاءً بالخطاب السيريّ، على النحو الذي يؤهّلنا للقول بأهميّة موضوع العتبات النصيّة في الدرس النقديّ الحديث بلا جدال.
تحظى عتبة العنونة بالموقع الأوّل في فضاء العتبات النصيّة لما تتمتّع به من حساسيّة كبيرة في تشييد معالم النصّ وإقامة بنيانه، وكان للعنونة منذ القديم أهمية على مستوى الحياة العامّة قبل الحياة الأدبيّة والنصيّة؛ إذ لا يمكن لأيّ شيء في الحياة بعامّة أن يحقّق هويّتَه من دون أن يكون له عنوان يحيل على فضائه ومعناه ودلالته ورمزيّته، والعنوان بداية الشيء وسبيله ومقصده ورأسه ودليله ومحطّته الأولى للانطلاق والشروع، ولا طريق إلى بلوغ فهمه وإدراك نيّـته ومعرفة مضمونه ومضمره من غير الاطلاع على عنوانه، ومن ثمّ تلقّي أطروحته على المستوى الدلاليّ والفنيّ والجماليّ.
لذا كان العنوان النصيّ أداة فعّالة للدخول إلى عوالم العنوان وبلوغ مراميه والتوصّل إلى مقاصده المباشرة وغير المباشرة، فشجّعت الدراسات النقديّة الحديثة لأخذ عتبة العنونة –بمعيّة العتبات الأخرى طبعاً- ميداناً للقراءة والبحث والتحليل والتأويل، وصارت الآن ميداناً مستقلاً للدرس النقديّ الحديث يكشف عن منهجيّة المبدع في رسم خريطة نصّه الإبداعيّ وتضاريسه ومضمراته، ويمكن أن يكون جزءاً أساساً من دراسة خطاب النصّ بأكمله على نحو يجيب عن أسئلته من النواحي
كافّة.
تنطوي عتبة العنوان في هذا السياق على تحدٍّ وتحريضٍ وإغراء وإغواء تدفع عناصر التلقّي نحو الانكباب القصديّ على هذه المساحة التعبيريّة الضيّقة، والسعي إلى تحليل مكوّناتها اللغويّة ذات الطابع التشكيليّ الكثيف والمركّز والمحتشد والمكتظّ، للوصول إلى المقولة النصيّة التي تتضمّن الأطروحة الأساسيّة التي يتشكّل منها الخطاب، وتستخدم القراءة كلّ ما هو متاح من أدوات تحليل وتفسير وتأويل على وفق رؤية نقديّة نصيّة تتوسّل بالمناهج الحديثة، وتجتهد في حداثة قراءتها على نحو يناسب كل شكل عنوانيّ يتّسم بميزات خاصّة، تعتمد على طبيعة العلاقة الوثيقة بين العنوان والمتن النصيّ في كلّ قصيدة بما يستجيب لحيويّة التشكيل وحساسيّته، على وفق المنظور القرائيّ الذي ينتهي إليه المتلقّي في قراءاته المختلفة بحسب اختلاف النصوص وهويتها وأطروحتها السيميائيّة.
إذ لا يمكن النظر إلى عتبة العنوان بمعزل عن طبقات المتن مثلما لا يمكن في الوقت نفسه عزل العنوان عن قراءة هذه الطبقات، فما بين العنوان والمتن مثلما بين الرأس والجسد داخل تماسك يبلغ درجة قصوى من درجات الجدل، وهو ما يحرّض أدوات القراءة على الاستغراق الطويل في قراءة عتبة العنوان وعدم التسرّع في مقاربتها، وكلّما كانت قراءة العنوان عميقة ومفتوحة على مسارات تأويليّة متعدّدة سيكون بوسعها إنجاز تمهيد إجرائيّ للوصول إلى قراءة مثاليّة للمتن النصيّ.