{تولستوي فناناً} واستبصار الروح

ثقافة 2022/06/08
...

 تولستوي فنانا، كشفت فيه الدكتورة حياة شرارة، اغوار ومغاليق الروائي الروسي ليو تولستوي، واهم محطاته الأدبية والفنية والحقبة الزمنية التي عاش فيها واهم مقتربات روافد ثقافته، دخلت د. شرارة إلى واحدة من أهم قلاع الرواية العالمية بالتحليل النفسي والولوج إلى عالم الشخصيات المليء بالأسرار والغموض والنبل والقبح.. 
ابراهيم سبتي 
وقد استطاعت الراحلة شرارة من سبر أغوار هذا الكاتب الكبير، من خلال دراستها للأدب الروسي في موسكو في ستينيات القرن الماضي، واكتسبت معرفة فنية واسلوبية، وعكست معارفها وعلومها على طلبتها في جامعة بغداد. وكانت محاضراتها أيقونة من أيقونات الجمال والبراعة الفنية في الأدب الروسي، وألفت خمسة كتب فيه. تطرقت المؤلفة في "تولستوي فنانا" إلى روايتين من أهم رواياته، وهما "الحرب والسلام وآنا كارنينا"، ومتناولة فيه الروافد التي تأثر بها متمثلة بكتابات العديد من الادباء، وأهم الفلاسفة والمؤرخين الروس والغربيين. الأمر الذي ترك أثره الفكري والأدبي في تكوينه ووعيه. وحين نجد هذا التأثير، نكتشف أن تولستوي استطاع أن يجدد ويبدع في كتاباته مقارنة مع أهم كتاب عصره، مستخدما التحليل النفسي لدى أبطاله ببراعة وامكانية تعد سابقة في سيرة الكتابة الروائية الواقعية. وتؤكد شرارة في هذا المعنى، أن تعدد الألوان الأدبية والاجتماعية، التي تعرض لها تولستوي وغزارة انتاجه أدت إلى تناول جانب واحد من تراثه الأدبي، وهو الأسلوب وطرق كشف دواخل الشخصية فكريا ونفسيا. وربما أدركنا من خلال الإيغال في القراءة، بأن هذا الكاتب تتجلى فيه أعظم الخصال من الحالات الإنسانية والطيبة المتناهية ورفضه للظلم السائد ونصرة المظلوم. وهو ما ادى إلى بلوغ أغلب أعماله السردية لهذه المزايا، التي جعلته يقف متأملا الحياة كدلالة قوية ومؤثرة، ويمكن أن يعيش فيها الطيب والنبيل جنبا إلى جنب مع القبح والظلم، ولكن بشروط إنسانية لا يمكن أن تذوب تحت وقع قوة الظلام. وفي غورنا في أعماق الكتاب سنجد بان المؤلفة أرادت من تسمية كتابها بـ " تولستوي فنانا" أؤكد بأنه اضافة إلى كتابته للرواية والمسرحية والقصة القصيرة، فقد كتب الفلسفة وبواطن الفن والتاريخ بنظرته الإنسانية والدين كسلوك عام. اما قراءات تولستوي للكتاب الغربيين، خاصة الفرنسيين والانجليز والاميركان، فإنها كانت مكملة لثقافته، وسبق وأن قرأ لجميع الأدباء الروس وكوّن وعيا خاصا. لكن أهم المحاور التي اشتغل عليها تولستوي هو مفهوم البطل في أعماله، الأمر الذي يحيلنا إلى مدى التأثيرات النفسية لدى بطله الاستثنائي، وقد خلق لنفسه عالما خاصا مختلفا تماما. إنَّ تناول الروايتين المهمتين في كتاب "تولستوي فنانا" قد جعل امكانية الاقتراب من اسلوب الروائي ممكنة، خاصة أن الدكتورة حياة شرارة، قد أرجعت كل التطور الحاصل في الروايتين إلى الفكر المبدع والتجديد واستخدام الاسلوب المغلف بالتحليل النفسي. مما ميزّه عن الكتاب الروس الاخرين حين جعل من البطل شاخصا استدلاليا وليس كائنا مخذولا يائسا، بل أكثر وعيا وأشدّ تعلقا بالصواب، الذي يبحث عنه الجميع. تولستوي كان يبحث لنفسه عن التميز، بعيدا عن مجاراة الكتابات الاخرى، فاختط لنفسه طريقا أدبيا مختلفا تماما. وهو ما جعله أكثر الأدباء الروس شهرة وثقافة وميلا لصنع الواقعية الجديدة في كتاباته عبر تقنية المنولوج الداخلي والطبيعة المؤثرة والصورة الفنية. واجتمعت كل هذه العناصر لبلوغ المعرفة الجمالية في انتاج روايتيه الحرب والسلام وانا كارنينا. وهنا تولدت اشكالية تقاطع الآراء والكتابات النقدية حول رواية انا كارنينا من خلال اسقاط سمات العصر عليها والتركيز على أبطالها. الرواية أخذت جدالا واسعا بين النقاد استنادا لبعض الآراء، لكنها في النهاية ظلت خالدة كما تخلدت كل روايات ليو تولستوي. إن كتاب "تولستوي فنانا" تنبع أهميته بكونه يتناول أحد أهم سمات الكتابة عند تولستوي، والتي خلدته كاتبا مهما في التاريخ. صدر الكتاب لمؤلفته الدكتورة حياة شرارة بطبعته الاولى عام 1971 والثانية في 1979 وتوالت طبعاته المتعددة لاحقا لأهميته.