الإبداع.. رغبة الآخر أم جهد المنتج؟

ثقافة 2022/06/08
...

 علي لفتة سعيد
 
وضعت هذا السؤال وأنا أقرأ مقال الدكتور عبد العظيم السلطاني المنشور في ثقافية جريدة الصباح في 16 أيار 2022 والتي دعا فيها الى أن يكون العنوان قصيراً، لأنَّ أي العنوان الطويل سينسى حالما يتم الانتهاء من القراءة. ورغم أنه قال في المقال (لا يعنيني هنا التحدّث عن القيمة الفنية والثقافية لتلك الأعمال الأدبية (الكتب) فقد تكون جيدة المضمون، ولا يعنيني، أيضا، الحديث عن مدى ارتباط العنوان بمضمون العمل الأدبي، يعنيني هنا الحديث عن جزئية صغيرة في العنوان وهي طول العنوان، ففي هذا الطول دلالة على تخلي الأديب عن بعض سر صنعته، التي تستلزم مهارة في صياغة عنوان مكثف يعلق في ذاكرة المتلق)، وهو هنا رأي مزاجي مرتبط بما يريده الدكتور المبدع لا ما تريده الغاية من الكتابة وكيفية تأطير العمل الأدبي وكيفية استخراج العنوان ليكون بوابة مدينة النص.. بمعنى أن العنوان لا يأتي اعتباطا أو مزاج المؤلف ليكون عنوانا مؤثّرا وإن كان هذا جزء من جذب الغلاف (الكتاب يقرأ من عنوانه)، بل لأنه يأتي محمولًا لماهية الكتاب المنتج وما وقع بين دفّتيه من محمول النص ودلالته، وما يمكن أن يجمعه العنوان من دلالات التفسير النصّي وغيرها من التعاريف التي يطرحها العنوان ومفهوم العنونة (هنا الحديث عن النصّ الابداعي لا النص الهش) بمعنى أن طول العنوان لا يؤثّر على عملية الحفظ، إذا ما انتهى المتلقّي من القراءة كونه وجد النص ممتعًا ومبدعًا وبالضرورة سيحفظ العنوان كما حفظه العشرات من العناوين الطويلة (الحب في زمن الكوليرا- أربع كلمات) الرواية الفائزة بجائزة البوكر هذا العام وعنوانها الطويل جدا (خبز على طاولة الخال ميلاد). ولو تتبعنا أغلب الروايات المرشحة لذات الجائزة نرى أنها عناوين طويلة ايضا مثل عنوان (دلشاد - سيرة الجوع والشبع) و(الخط الأبيض من الليل) وغيرها من العناوين التي نشرت في القرن الواحد والعشرين وهي قريبة الصدور وربما يشملها الاعتراض على العناوين الطويلة، وإذا ما عدنا الى التاريخ سنجد عناوين طويلة أخرى ومؤثرة كرواية (الساعة الخامسة والعشرون) وغيرها الكثير.
يقول الدكتور (لا يعنيني منطق «الموضة» الذي قد تسري عدواه إلى الكتّاب، فيقلدون بعضهم في عنوانات طويلة. مثلما لا يعنيني أن أديبا كبيرا - عربيا أو عالميا - استعمل عنوانا طويلا لكتاب أدبي، فمَنْ يصنع هذا الآن يجانب الصواب كائنا من كان. فالعنوان المصاغ بكلمة أيسر على الذاكرة من أخيه المصاغ بكلمتين، وهذا الثاني أيسر من عنوان بثلاث كلمات إنشائية، وهذا الأخير أرحم على الذاكرة من عنوان بأربع كلمات أو خمس.. وهكذا يكون الموقف من هذه العنوانات ليس موقفا مزاجيا إنّما هو أمر يتعلق بمنطق الحفظ والتذكّر لدى الإنسان المتلقي) وهو قول فيه موقف ذاتي وليس علميا منهجيا استقصائيا استقرائيا لتأثير العنوان على الحفظ والذائقة، إلا قد يكون تأثر أننا في عصر السرعة، وأن لا مجال للنصّ الطويل، في حين هناك روايات بأكثر من 450 صفحة لاقت الحضور والجماهيرية والنقد معا.
إنَّ الأمر كان بالإمكان أخذه على أنه قراءة منهجية لرؤية نقدية، وليس رأيًا يطرحه ناقد ويمضي، لأنه لا يريد هكذا عناوين، بل انه يعدها (موضة) وعدوى وهو أمر (شخصي) لأن العنوان ليس موضة بالنسبة لصاحب النص الإبداعي، خاصة وأن جميع من ذكرهم هم مبدعون فيما أنتجوه.
إنَّ العنوان جزء كبير من عملية فهم النصّ الذي أنتجت عنه كتابا صدر عن منشورات الاتحاد وهو يحمل عنوانا طويلا أيضا (فهم النص من الإنتاج الى المتلقي) والتي يمكن أن نفسره أي العنوان هو دليل ودلالة ومدلول وهو الذي يضع الأدلّة لما يأتي من أحداث. ولهذا فهو عند الكثير من المبدعين من أصعب عمليات إنتاج النص.. فلا يمكن أن يحصر في كلمة واحدة أو كلمتين، لأن المنتج ليس أمام إعلان تجاري وليس نزولًا عند مقولة عصر السرعة والاقتصار والاقتصاد بالكلام.. بل هو ماكينة محرّكة لفتح البوابة.
من جهةٍ لنتخيّل لو صارت عناوين ملايين الكتب مكونة من كلمةٍ واحدة أو كلمتين فإن الأمر سيكون مرهقا قبوله ايضا، وهنا أضع رأيا شخصيا ايضا لأنه من غير المعقول مراقبة العنوان من خارجه من دون الحفر في بواطنه.. لأن اختياره إن كان غير موفّق فإنه سيكون تحت طائلة النقد.. فالعنوان يقرأ بمدى ارتباطه بالمنتج ليكون مقبولًا عند المتلقّي، ولا يحتاج الى رجاء (عزيزي الكاتب، لطفاً وليس أمراً، اختر لكتابك الأدبي اسماً موجزاً يتذكّره القرّاء، واحفظ لصنعتك هيبتها، واحجز لمنجزك مكاناً في ذاكرة التلقّي، وادفع عن ذاكرة القراء بعض الضرر والإزعاج. فالكتب صارت بعدد حبات الرمل في صحراء، لذا ضع لكتابك علامة لا تضيع فيها الذاكرة في تلك الصحراء) وهذا قول لا أقول إنه فيه تجنٍ على الكتاب، بل فيه أبويَّة ورأي شخصي لا يدرس ارتباط العنوان بالنص، بل ارتباطه بالمزاج. فالأمر نسبي بين قبوله ورفضه كما هو في كلّ الأشياء الأدبيَّة وغير الأدبيَّة.