الإخلاص للرسم

ثقافة 2022/06/08
...

ستار كاووش
لكل فنان مصادره الشخصيَّة التي ينهل منها لبناء وتكوين أعماله الفنيَّة، فمنهم من يعود للموروث وآخر يعكس الحياة اليوميَّة، في حين فنان آخر يختزل الأشكال التي يراها حوله، ويحولها الى ألوان ومساحات تحمل إيقاعاً خاصاً وتأثيراً معيناً، وهناك من ينظر الى الطبيعة ويستلهم منها تفاصيل معينة في أعماله. هكذا تتعدد المصادر وتختلف باختلاف الفنانين، وما على الفنان المبدع والمبتكر سوى كيفيَّة توظيف هذه التفاصيل وإخراجها بهيئة أعمال فنيَّة ناجحة. وفناننا اليوم هو مؤيد محسن، ولوحاته المليئة بأشكال وتفاصيل تأخذنا نحو تاريخ العراق البعيد وتعود بنا الى محن الوطن وما مرَّت به من منعطفات. وكأنَّ هذا الفنان يفتح مرسمه ليلاً ويتسلل نحو تاريخ العراق في رحلة مليئة بالألوان والشجن والتساؤلات التي لا تنتهي، ثم يعود محملاً بعوالم سحريَّة خاصة. لقد وظّف مؤيد محسن تقنيته المذهلة وصبره الكبير في ملاحقة الأشكال والإمساك بها وجعلها تترابط وتتماهى في علاقات غير مُتَوَقَعَة، ليخرج لنا بمجوعة من الكنوز بهيأة لوحات فنية. ونحن أمام لوحات هذا الفنان لا يمكننا سوى أن نأخذ الرسم على محمل الجد، بعيداً عن الفن السهل الذي تصنعه المصادفات والخربشات العابرة، فهو يبني عالمه على مهل، وبدراية ومعرفة بماهية الرسم، يؤسس مواضيعه ويضع طبقات اللون واحدة فوق الأخرى، ويحرك شخصياته في مناخات جمعت بين غرائبيَّة الأفكار وسحريَّة التأثير وسورياليَّة العلاقة بين مفردات اللوحة، إنّه يعيش في لوحاته كما يعيش في بيته. اجتهد مؤيد محسن كثيراً، ليفتح نافذة ينظر من خلالها الى قيمة الرسم وليس الى كميَّة المعارض، وآثَرَ أن يمنح لوحاته روحاً ومعنىً وأسئلةً بدلاً من الانقياد الى سهولة تسويق اللوحات بغية انتشارها، لذا علينا عَدُّهُ فناناً لا يبغي سوى النتائج الباهرة التي تخرج من بين يديه، ولا يتردد بالعمل شهوراً أمام قماشة الرسم، كي يرينا أعمالاً ستبقى جزءاً أساسياً من تاريخ الرسم العراقي. وفي الوقت الذي يحاول الكثيرون الاتّكاء على تفاصيل بعيدة عن العملية إبداعيَّة لترويج أعمالهم، يدع مؤيد محسن فرشاته تقول لنا كل شيء، فرشاته هي التي تسرد لنا حكاية الرسم وأحوال البلد الذي مزقته الحروب والمحن. هكذا تنبثق لوحات مؤيد محسن لتخبرنا عن أحوال البلد بطريقة تبدو حزينة، لكنها لا تخلو من السحر الذي يشبه سحرنا العراقي، إنه يجعل من الخراب قطعة فسيفساء حزينة، لكنها مليئة بالجاذبيَّة، وهذا ما منح لوحاته أهمية وجعلها شاهداً على الإبداع العراقي.
يجمع مؤيد محسن اللقى الأثريَّة من تاريخ العراق القديم، ويفرك عنها الصدأ، لينثرها فيما بعد فوق سطوح لوحاته التي تقول لنا سر الحكايات التي تغوص في عمق البلد. يعيد بناء التماثيل القديمة بهيئة عشاق ومحبين لبعضهم وللوطن رغم كل الثقوب التي ملأت أجسادهم. يمسك غبرة ملونة وينثرها على وجوه شخصياته فتتدفق ملامح العراق. نتجول بين لوحات هذا الفنان الرائع وننتبه الى الشوارع الفارغة إلا من أسمالٍ تطوف على الأرصفة وأرائك متهرئة ومنحوتات موغلة في عمق العراق، سماوات ملبَّدة بغيوم غامضة، وظلال قاتمة زحفت على الشوارع وانطبعت على ملامح الشخصيات.
 نتأمل لوحات مؤيد محسن من جديد ثم نغادرها مودعين، لكن لا يمكننا نسيان تلك السكك الغامضة التي تمتد بعيداً في عمق اللوحات وتؤدي الى أماكن نائية ليس لها حدود، ووسط كل هذا تبقى صورة ذلك الرجل الذي يدفع عربة ثقيلة امتلأت بآثار العراق، يدفع الرجل عربته متعباً، ذاهباً الى مكان مجهول، بينما الأفق يتوهَّج بشفق أحمر ينذر بعاصفة حرب أو ارتجافه وطن ينام في العراء، وطن أعطى العالم كل شيء لكن باتت تتناوبه السهام. وفي خضم كل هذا، أمسكَ مؤيد فرشاته وهو يراقب بلده متحسراً ومخلصاً لهذا الوطن وهذه الأرض، وانتصب بقامته المديدة معيداً بناء لوحاته من بقايا هذه الأرض الموغلة في المحبة والقدم.