الدبلوماسيَّة الثقافيَّة

ثقافة 2022/06/11
...

 موسى إبراهيم أبو رياش
 
يُعرِّف الأميركي ميلتون سي كامينغز الدبلوماسيَّة الثقافيَّة بأنَّها: «تبادل الأفكار والمعلومات والقيم والأنظمة والتقاليد والمعتقدات والجوانب الأخرى للثقافة؛ بهدف تعزيز التفاهم المتبادل». أي أن الدبلوماسيَّة الثقافيَّة هي قوة ناعمة تستهدف الدول والمجتمعات الأخرى؛ لتعزيز التفاهم والثقة والروابط والعلاقات، وتغيير الأفكار السائدة المغلوطة أو المشوَّهة أو للتعريف بنفسها وما تمثله للوصول إلى مجتمعات جديدة.
وأدوات ووسائل الدبلوماسيَّة الثقافيَّة كثيرة جدًا، وتتجدد وتزداد باستمرار، ومن أهمها: المعارض، الأيام الثقافيَّة، الأفلام والمسلسلات والأغاني، الكتب والصحف والمجلات، تدريس اللغة، تبادل الطلاب، الوفود الثقافيَّة، الدورات والندوات، المنح الثقافيَّة والعلميَّة، القنوات الفضائيَّة، المواقع الإلكترونيَّة، المراكز الثقافيَّة، وغيرها.  ومن هنا، تولي كثير من الدول عناية فائقة بمنتجاتها وأدواتها الثقافيَّة، لتكون خير سفير لها في الخارج، وتعطي صورة إيجابيَّة عنها، وتكون عامل جذب واهتمام، وهذا في النهاية يؤدي إلى الاهتمام بالدولة وتجارتها وصناعاتها، وما يتوافر فيها من بيئات سياحيَّة وعلاجيَّة وتعليميَّة واستثماريَّة.
وتلعب المؤسسات والمراكز والهيئات الثقافيَّة في الدولة دورًا حاسمًا في نجاح الدبلوماسيَّة الثقافيَّة أو فشلها، وهذا يعتمد على جودة ما تقدمه للآخر ومتابعته واستثماره بما يحقق الأهداف المرجوة. وتعد شبكة الإنترنت من أخطر وأهم وأعظم أدوات الدبلوماسيَّة الثقافيَّة؛ لسهولة وصولها للآخر، وقدرتها على توفير الكم الهائل من المعلومات بجميع صورها وأشكالها وبسرعة ومن دون جهد، وهذا يرتّب على الدول المعنيَّة بالدبلوماسيَّة الثقافيَّة أن يكون لها منصات وواجهات إلكترونيَّة قويّة ومميّزة، سهلة الاستخدام، جذابة، توفر المعلومات الكافية وتحديثها باستمرار، والتواصل مع المستخدم والإجابة عن استفساراته بسرعة ودقة ومصداقيَّة. إنَّ كتابًا أو رواية واحدة قد تكون مؤثرة وفاعلة أكثر من جميع الجهود الدبلوماسيَّة الثقافيَّة، فرواية «مئة عام من العزلة» لغابرييل غارثيا ماركيز، نجحت في لفت الأنظار لكولومبيا والقارة الأميركية الجنوبيّة وآدابها وتاريخها وواقعيتها السحريّة، وأذكت روح البحث والدراسة عن هذه القارة ودولها وثقافتها وإنسانها ومعاناتها. كما أدت رباعيَّة «مقبرة الكتب المنسيَّة: ظل الريح، لعبة الملاك، سجين السماء، متاهة الأرواح» للإسباني كارلوس زافون دورًا مماثلًا، لمدينة برشلونة على الأقل. وعربيًا، يمكن اعتبار «ثلاثيَّة القاهرة: بين القصرين، قصر الشوق، السكريَّة» لنجيب محفوظ بأنّها أدت وما تزال مهمة ناجحة في الدبلوماسيَّة الثقافيَّة المصريَّة على الصعيد العالمي. وقد شكل الثلاثي الفلسطيني «ناجي العلي وغسان كنفاني ومحمود درويش»، قوة ثقافيَّة ناعمة، نقلت معاناة الفلسطيني تحت الاحتلال، وظروفه القاهرة، وحلمه بالتحرير والحريَّة، ولكنها لم تستثمر سياسيًا لعدم وجود سلطة سياسيَّة حقيقيَّة على الأرض.
وعلى صعيد الأفلام والمسلسلات، يمكن ملاحظة تأثير المسلسلات التركية على المجتمعات العربية، وانتشارها الواسع، وما أحدثته من اهتمام باللغة التركية وتعلمها والدراسة في تركيا، ودخول كثير من الأسماء التركية للمواليد الجدد، ومساهمتها في توجيه البوصلة السياحية إلى تركيا، والاستثمار والإقامة فيها، وقد تمثل ذكاء الصناعة الدرامية التركية في أنها تخاطب جميع الأذواق والشرائح والأعمار والثقافات، فتجد فيها المسلسلات التاريخيَّة والرومانسيَّة والكوميديَّة والبوليسيَّة والوثائقيَّة وغيرها، وبكم كبير يشغل المتلقي ويشبع نهمه وفضوله.
والدبلوماسيَّة الثقافيَّة تختلف عن الغزو الثقافي، فالدبلوماسية تعني بالسلام وتعزيز الروابط، بينما الغزو يمهّد للسيطرة والتحكّم، وقد تكون الدبلوماسيَّة الثقافيَّة جزءًا من مخطط ينتهي بالغزو الثقافي، إذ إنَّ الدبلوماسيَّة الثقافيَّة تخدم في المحصلة أهداف الدولة وسياستها الخارجيَّة.
إنَّ الدبلوماسيَّة الثقافيَّة لم تعد ترفًا أو شأنًا هامشيًا في عصر يرفض التقوقع والانعزال، والدول القوية تسعى لدعم دبلوماسيتها الثقافيَّة وتعزيزها وتوفير أفضل السبل لإنجاحها وتأدية دورها المطلوب، لما في ذلك من أهمية في خلق صورة إيجابية زاهية للدولة لدى الآخر، وما يترتب على ذلك من نتائج جيدة وحصاد وفير ومصالح متحققه في المجالات الآخرى، ووجود دبلوماسيَّة ثقافيَّة مؤثرة لا يتوقف على السلطة السياسيَّة فقط، بل على كل المنابر الثقافيَّة الحقيقيَّة في الدولة، فالكل شريك ومستفيد في نهاية المطاف.