بيسوا: فنّان الهروب

ثقافة 2022/06/11
...

 علي محمود خضيّر
حتى بين أكثر الشعراء غرابة ممن تحدثوا إلى الربِّ أو الملائكة، وأعلنوا الوصاية على العالم، يظل فرناندو بيسوا حالة خاصة. فقد اخترع مهندس الحداثة البرتغاليّة ما يصل إلى 136 اسماً مستعاراً للتعبير عن كلماته. عازياً إليها أعماله. لا غرابة في النشر تحت اسم مستعار، لكن بيسوا الذي يدعي أنه هاوٍ، عامل تلك الأسماء بواقعيّة تسترعي الدرس، فرسم لها مسارات حياة، تواريخ ولادة ونشأة ودراسة ووفاة! كتب بأسمائها باللغات البرتغاليّة والإنجليزية والفرنسيّة. ثم أعطى كل واحد فيها أسلوباً أدبيّاً خاصاً.
 
بعد ما يقرب من قرن على وفاته، لا يزال الشاعر البرتغالي أحد أكثر كتّاب العالم غموضاً، إذ صدرت مؤخراً، عن دار (Livertight)، سيرة ضخمة عن حياته قاربت الألف صفحة، كتبها الأميركي/البرتغالي ريتشارد زينيث، المتخصّص بأدب الشاعر، والذي ترجم مختارات لهُ بعنوان “فرناندو بيسوا وشركاؤه” عام (1998) فازت بجائزة القلم لترجمة الشعر. كما حاز على جائزة بيسوا لعام 2012.
بعد سنوات من فك تشفير ذوات بيسوا الوهميَّة، يستهدف زينيث اليوم الرجل نفسه، كما هو. يعيد سرد طفولته ومراهقته ومكابدته للبقاء على قيد الحياة مترجماً وناشراً. كما يقدّم المؤلّف دائرة أصدقاء بيسوا البوهيميّة، معرّجاً على أوفيليا كروز، التي بادلها رسائل الحبّ. كاشفاً عن التزام الشاعر الثابت بالدفاع عن الكتّاب المثليين ممن تم حظر كتبهم، ونشأة فكرة الأسماء المستعارة، مع تفاسير قيّمة عن حياة الشاعر الخاصّة، ومعارضته الشجاعة لسالازار، الديكتاتور البرتغالي، في نهاية حياته.
حين توفي بيسوا لم يكن قد ترك وراءه الكثير من الكتابة التي تحمل توقيعه. مع ذلك فقد ترك 25 ألف ورقة مخطوطة من القصائد والمقالات والقصص القصيرة والمسرحيَّات والنقد الأدبي والأطروحات السياسيَّة والفلسفيَّة، لا شيء منها تقريباً يعود لاسمه!، شكّلت، هذه الأوراق، مع مجموعة من الرسائل الأسريَّة غير المنشورة، مادّة لكتاب السيرة الجديد. 
قضى فرناندو أيامه في العمل كاتباً في شركات الاستيراد والتصدير، لا علاقات حب أو فضائح جنسيَّة، لم ينضم إلى حركة سياسيَّة ولم يلق قنبلة في حياته! في كتاب “اللا طمأنينة” يصف برناردو سواريس حياته بأنَّها “تمثال صنع من مادة غريبة على كياني، وجود اصطناعي بلا جسد ودم حقيقيين”. ما التاريخ الذي يمكن كتابته عن هذا الشخص؟ وأين تكمن حقيقته؟
يردّد نقّاد أنَّ أدب بيسوا، الذي كتبه تحت اسمه الصريح، هو الأقل جودة بين ما كتب، وأن أعلى “أمثلته” ضربها الرجل حين كان خلف الستار. 
ما يلاحظ في الأسماء المستعارة التي كتب تحتها بيسوا، إلى جانب عددها، تفرّد كل واحد منها بأسلوب يختلف عن الآخرين بشكل تام. لا يشبه البرتو كاييرو دي سيلفا، بأي حال من الأحوال، ألفارو دي كامبوس، وقد تُفضل، عزيزي القارئ، وضوح كاييرو التقشفي، بينما تضربك التقييمات المدمّرة لكامبوس، الواضحة في تراتيله. أو ربما تنحاز لمعلم اللغة اللاتينيّة في المدرسة الثانويّة ريكاردو ريس، أو تغرق في كتاب “اللا طمأنينة”، وهو سيرة ذاتية لشخص لا وجود له، بدأها فيسنتي جيدسي عام 1914 وانتهى منها برناردو سواريس بعد اختفاء جيديس في العشرينات! ربما تتجوّل في وثيقة للمراهقة ماريا خوسيه، التي ستموت بالسل في شقة لشبونة، وتضحك على هجاء سيدني باركنسون وغاودنسيو نابوس وكلاهما ينتميان لمجتمع بيسوا الأدبي. كل هؤلاء، وغيرهم العشرات، صنعهم بيسوا بدأب وإصرار بالغي الندرة. يقول الكاتب ماريو دي كارفاليو: “ماذا يعني أن تحب بيسوا، أو أن تقرأه؟ لمن تنتمي لغته وحياته؟”.
يقول كاييرو، أحد أقنعة بيسوا: “كتابة الشعر طريقتي في أن أكون وحيداً”. إن كان ثمة ما يوحّد شخصيات بيسوا وخالقها فهو أن كتابات بيسوا كلها تبدو وكأنّها محاولة للاختفاء وتغييب حياته الخاصة. هذا واضح، تحديداً، في أهم ثلاثة أسماء مختلقة: كاييرو وكامبوس ورييس، على الرغم من اختلافاتهم الأسلوبيَّة. إذ يترنّح كل منهم بين العدميَّة والرمزيَّة والتأمّل الراديكالي.
وعلى الرغم من أن الكتاب يعلن نفسه سيرة ذاتيَّة لشاعر، إلّا أنه، في العمق، تاريخ شامل للحداثة الأوربيّة -في لشبونة تحديداً، بدلاً عن لندن وباريس، نيويورك أو موسكو- ووثيقة إدانة مهمّة لمنهج الفصل العنصري، وجرائم استعباد البشر، ومآسي الحروب العبثيَّة، ففي إشارة دالّة يذكر المؤلّف حقيقة تمويل عواصم الحداثة كافة المشاريع الاستعماريّة “الكارثيّة” والتي كان أحد وجوهها الاستغلال العنصري. فعلى الرغم من إدانة استعباد الأفارقة في أوربا وأميركا، “كانت السيطرة الأجنبيّة على الأراضي والموارد الأفريقية مقبولة بل جديرة بالثناء، بقدر ما تعني، شعاراتياً: تنمية، حضارة، لأجزاء من العالم وصفت، استراتيجياً، بأنّها مختلفة.
عندما انتقل بيسوا إلى جنوب أفريقيا في سن السابعة، بعد وفاة والده وزواج والدته المتهور من نقيب سابق في البحريّة البرتغاليّة، كانت ديربان مدينة فصل عنصري تحت الحكم البريطاني. كان السكان مزيجاً من الزولو والهنود والسكان الأصليين، معظمهم من الذكور ويعملون كعمال يدويين. حين اندلعت الحرب عام 1899، تدفّق الآلاف من اللاجئين إلى المدينة، تلاه ما وصفه زينيث بحادثة لا تنسى: “أعداد كبيرة من أسرى الحرب المشوهين.. الذين يمرون عبر ميناء ديربان في طريقهم إلى سجون ما وراء البحار”. 
يقع معسكر اعتقال ميربانك على بعد ثمانية أميال جنوباً؛ وهو الأكبر الذي تم بناؤه خلال الحرب، وتم تقسيمه إلى ثلاثة أقسام، سمي كل منها على اسم مسطح مائي في إنجلترا. بحلول نهاية الحرب، توفي 28000 امرأة وطفل في تلك المعسكرات وما بين 15000 و20000 سجين أسود بسبب الجوع أو أمراض مثل التيفوئيد والحصبة.
كانت ديربان، في وقت واحد، مدينة عالميّة وغير عادلة. حالة مثاليّة لتناقضات القرن العشرين. لأسبابه الخاصة أراد بيسوا الهروب من حياته - وفاة والده وشقيقه الرضيع (كلاهما بسبب مرض السل)، ومرضه الغريب الذي وصف على أنه “وهن عصبي هستيري” هيّأه (على حد تعبيره) إلى “نكوص الطابع الشخصي”، و “التفكير المفرط”، و “العجز عن التصرف واتخاذ القرار”. ويبدو أن التعرّض المبكر لأهوال الحرب والاستعمار والتمييز العرقي كان تحريضاً محتملاً. يقول كاتب السيرة الجديدة، زينيث: “ليس مصادفة تمجيد بيسوا لغاندي، الذي تزامنت أحداث ديربان مع صعود نجمه. كما ليس من المصادفة أن أول اسم مستعار لبيسوا كان رجلاً إنجليزياً يدعى تشارلز روبرت، انتقد الإمبراطورية البريطانية علانية”.
تحتاج أي سيرة ذاتية ناجحة إلى القيام بأمرين: تقديم معلومات جديدة حول موضوعها، أو إلقاء حقائق راسخة في أضواء نقاش جديدة. وهذه السيرة الجديدة تقوم بالأمرين معاً، في نثر أنيق يتمتع بطاقة مذهلة لرواية تاريخيّة واسعة تغطّي زمان الشاعر، لا ذاته فحسب.
قام المؤلف أيضاً بعمل كبير في ترجمة الوثائق غير المنشورة سابقاً، وتدوين حكاية مجلة بيسوا الفاشلة. إذ يقطع بيسوا ست ساعات سفراً إلى بلدة حدوديّة للحصول على مطبعة مستعملة، مظهراً حماسة فريدة في بناء الحداثة البرتغاليّة. ويسلط الضوء على رسالة غير مرسلة إلى ويليام بتلر ييتس تطلب المشورة بشأن صياغة المشاعر القوميّة من أجل “المستقبل الأدبي وغير الأدبي لأوروبا”. تحيّد السيرة الجديدة نماذج السير البيسويّة السابقة التي بالغت في اعتماد التحليل النفسي الفرويدي بما يتعلّق بالأسماء المستعارة والحياة الجنسيّة للشاعر.
في مسودة رسالة كتبها عام 1930، اعترف بيسوا بأن أسماءه المستعارة قد تبدو، من النظرة الأولى، “مزحة متقنة للخيال”. كان خلقهم “عملاً عظيماً من السحر الفكري”. وفي أفضل حالاتها، يمكن اعتبار سيرة زينيث الجديدة، عملاً سحرياً بهذا المعنى تماماً، بمنح بيسوا الجسد الذي افتقده- مميزاً وراغباً في العالم وليس محاطاً به - هكذا يوفّق الكتاب بين الكائن الوحيد وأنفسه المتعددة على نحو يثير الاعجاب، حتى عدّه وليام بويد، محرر مجلة the new statesman؛ البريطانية: “الكلمة الأخيرة بحق الشخصية الغامضة، بيسوا، ت. س. إليوت الأدب البرتغالي!”.