نارُ هيرقليطس

ثقافة 2022/06/11
...

  صالح رحيم 
بمجرد أن أذكرَ هيرقليطس، يتقافز الفلاسفة مثل الأرانب في الذاكرة، كأن هيرقليطس-الجذر- يوحي لهم بالشخوص أمام قارئ محموم بالتذكر مثلي، سقراط وأفلاطون وأرسطو، بل جميع الفلاسفة بلا استثناء، يمثل هيرقليطس أمامهم راية تذكرهم بالصراع المستمر بين الأشياء، هو الذي يقول إن الشقاق أبو الأشياء وملكها، وهو الذي يرى أن الموت وجود يزول والشر خير يتلاشى.
 
يذكر العالمَ دائماً بأنّه في تغير متصل، وأن التغيرَ هذا يجري في طريقين متعارضين، طريق إلى أسفل وطريق إلى أعلى، ومن تقابل هذين الطريقين تولد الأشياء. 
يرى هيرقليطس أن النار هي المبدأ الأول الذي تصدر عنه الأشياء جميعاً، وترجع إليه، وليست النار التي نراها بالطبع، بل هي نار إلهيَّة عاقلة أزليَّة تملأ العالم، يعتريها وهنٌ فتصير ناراً محسوسةً. 
نعم، كل الأشياء في تغير متصل، لكن، إلا هيرقليطس نفسه، فقد بقي حتى النهاية ناقماً على الجنس البشري بأكمله، وكان يرى أن يشنق أبناء أفسوس -أفسوس مدينته التي ولد فيها- بأن يشنقوا أنفسهم خيراً لهم، كان يرى أن الصراع أفضل للحياة، قال معلقاً على قول هوميروس «عسى أن يهلك الصراع بين الآلهة والناس» بأنه مخطئٌ لأن كل الأشياء تأتي إلى الوجود ثم تمضي من خلال الصراع وحده، نعم كل الأشياء في تغير متصل إلا هيرقليطس نفسه، يقول برتراند راسل في كتابه تاريخ الفلسفة الغربية: «إن العلم بحث عن الهروب من عقيدة التغير المتواصل، شأنه شأن الفلسفة، إذ اكتشفت الكيمياء أن النار التي تدمر، على ما يبدو تُحَوِّل فقط، فالعناصر تعود للتجمع من جديد، إذ إنها تفترض أنَّ الذرات لا تفنى، ولكن المسألة لم تتوقف عند هذا الحد فقد اكتشف الفيزيائيون أنَّ الذرات تتألف من الالكترونات والبروتونات، وقد افترض أيضاً أن هذه الوحدات لا تفنى، لكن لسوء الحظ بدا أن الالكترونات يمكن أن تتصادم وتنفجر لتشكل ليس مادة جديدة، بل موجة من الطاقة يمكن مطابقتها مع نار هيرقليطس، وحتى هذه اللحظة يتضح أن كل الأشياء في تغير مستمر إلا هيرقليطس نفسه، بقي هو هو، وأقصد حتى تغيره هو في تغير متصل!.