شَمَّاعيَّة

ثقافة 2022/06/12
...

 د. سعد عزيز عبد الصاحب
 
لا غرو أنَّ ثيمة الجنون في العرض المسرحي العراقي المعاصر كانت ثيمة إسقاطيَّة على الوقائع السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة في فترة النظام الشمولي السابق، ولبوس رمزي أضمر داخله سيلا جارفا من الاحتجاج والرفض والانتقاد لتلك الوقائع بوسائل اللاوعي والهذيان والبوح وازدواجية الأنا/ الآخر، فسجلت عروض (ردهة رقم 6) لبدري حسون فريد و(مسافر زاده الخيال) لعزيز خيون و(تقاسيم على العنبر) لجواد الأسدي حضورها الفاعل على المستويين الفكري والجمالي. واليوم يندرج عرض (شمَّاعيَّة) المقتبس عن نص مسرحي بعنوان (افتراض ما حدث فعلاً) للكاتب (علي عبد النبي الزيدي) تحت هذا الوصف، بنص مدوّن نهاية تسعينيات القرن المنصرم تحت تيار ما يعرف آنذاك بـ (ظواهر ما بعد الحرب)، وهو تيار درامي إخراجي كشف عمَّا حاق المجتمع العراقي من آثار دامية خلّفتها الحروب والحصارات. والمتن الحكائي لمسرحية (شمَّاعيَّة) يسرد من منطق (غروتسكي) حكاية مجموعة من المجانين في مشفى يقومون بلعبة افتراضيَّة لتزجية الوقت وكسر الملل والرتابة داخل المكان (الشمَّاعيَّة)، فيلعبون لعبة مفادها أن نائب الجنرال يأتي مسرعاً إلى الجنرال ليخبره أن نصب الجندي المجهول قد اكتمل بناؤه ولا ينقصه سوى جثة جندي لدفنها أمام النصب، لكي تكتمل المراسيم لافتتاحه وتدشينه، يبحث الشعب عن جثة هذا الجندي فلا يجدونها، فهو شعب مسالم لا يعرف الحروب قط ولتستمر اللعبة الغرائبيَّة حين يقوم الجنرال بادخال شعبه بحروب عبثيَّة ليحصل على جثة الجندي لدفنها تحت النصب، ولكنَّه لا يحصل على شيء فجميع حروبه منتصرة وأمام بلدان ضعيفة فيصر على إقامة حرب مع دولة قوية ولها جيش باشط. والغريب أنَّه ينتصر هذه المرة أيضا، فيعثر على جثة من جثث الأعداء في الأرض الحرام، فيأتي بها محاولاً دفنها أمام النصب، إلّا أنَّ الجثة تستيقظ وتنتفض وترفض الدفن في أرض ليست أرضها فتهرب.. يقع الجنرال ونائبه في حيرة لينتخبوا شخصاً ضئيلاً (قزماً) لدفنه في المكان، لكنَّه يرفض بشده على الرغم من المغريات المقدمة له، فيهرب هو الآخر. أخيراً يفرض الجنرال حرباً جديدة على شعبه، فينشق ويحتج عليه شعبه منقلباً عليه، وتكسر اللعبة في النهاية، وتعود الشخوص إلى واقعها، حيث كنا في لعبة مسرح داخل
 مسرح. 
يحمل النص مضامين تنتمي لحقبة (تابويَّة) سابقة على صعيد التعبير إلّا أنَّ الفعل الدراماتورجي الذكي للمخرج (أبو رامي الملكشاهي) وضع الثيمة وتجسيدها ضمن حدود معاصرة وانفتاحات راهنة على العلل والمشكلات اليوميَّة في ضوء (الجثة) التي هي متلازمة زمكانيَّة في الواقع العراقي المأساوي. فعمل المخرج على ترحيلها من زمنها لتنفتح على ثيمات جديدة كالقتل على الهوية والإرهاب والإقصاء السياسي وغيرها محتفياً أي النص الإخراجي الجديد بفواعل حاضرة عالجها بمنظور شكلي تجريدي (مؤسلب)، حيث هناك مرتفع (مدرج) في خلفيَّة المكان يقف عليه الجنرال ونائبه، فضلاً عن أسرة المرضى المجانين التي تحولت دلالاتها لمدلولات عديدة على مدار العرض تشي بجماليات صوريَّة كانت أقرب لفواعل أسلوب الواقعيّة الخياليّة في شكلها الإخراجي الذي تجانس مع المبدأ التجريدي للفضاء وعمل الممثل الجماعي المقتصد، فضلاً عن جودة فعل الممثلين (الطاقمي) وتوحيدهم الصوتي والجسدي لتشكيل لوحة بصريَّة متناغمة يقف وراء تجسيدها مخرج شاب
واعد سيكون له شأن كبير في حركة المسرح العراقي قابل الأيام.  كما لا يمكن إغفال (الهارموني) والوحدة اللونيّة التركيبيّة للأشكال داخل العرض، حيث سيادة اللونين التبني والأبيض اللذين خرجا من أسمال المجانين وما لبسوه من براقع وأزياء للدلالة على رثاثة المكان وعفنه، ولتصوير (الشمَّاعيَّة) أشبه بسجن كبير خانق، والأداءات التمثيليَّة التي اقتربت من نمط الأداء الساخر الكاريكاتوري بكوميديا نظيفة وارتجالات أدائيَّة متمكنة من ضبطها الجمالي بتشخيص أكثر من ثلاثة عشر ممثلا لا يتسع المكان لذكرهم، استطاعوا في أربعين دقيقة من العرض المسرحي أن يقدموا وجبة درامية غنية على المستويين الشكلي والمضموني ولم ينسوا امتاع المتلقي وسحره بمفارقات ومواقف درامية مشحونة بالوعي والعاطفة النبيلة، وتقديم خطاب يدين الحرب والإرهاب والقتل المجاني.. كل ذلك قدم من لدن فرقة دريم اكس من محافظة واسط بممثلين شباب لم يقو عودهم بعد على خشبة المسرح إلّا أنّهم امتلكوا الإرادة والطاقة الكامنة الحيَّة التي حققت تواصليّة وتفاعليّة مع المتلقي قل نظيرها في عروض مسرح الشباب اليوم.