محمّد خضير.. براعة الابتكار

ثقافة 2022/06/12
...

 أ.د. جاسم حسين الخالدي
         أخطر ما يواجه القصة العراقية، والرواية بنسبة أكبر، هو قصور لغتها وضعفها، ولا سيَّما في السنوات الأخيرة التي استسهلت الكتابة فيها، فصرنا نقرأ قصصا وروايات خالية من روح اللغة، تنتهك فيه المفردات والتراكيب والأساليب، من دون أن يلتفت الكاتب إلى ضرورة تنقية كتاباته من الهنات التي أسهمت في عدم تلقيها بالشكل المطلوب، ولا سيّما من المؤسسات الأكاديميّة التي تضع سلامة اللغة في سلم أولوياتها.                  
أسوق هذه المقدمة وأنا أتحدث عن الكاتب محمد خضير الذي استطاع أن ينتقل بالكتابة السرديّة العراقيّة إلى منطقة متقدمة إلى جانب قلّة قليلةٍ من كتّابها، من الرواد، أو ممن يتعاطون الكتابة في الوقت الحاضر.
لم تعد القصّة لديه عبارة عن كتابة سرديّة بمعناها الفني، بل تحوّلت «إلى قطعٍ سرديّةٍ ممتعةٍ متقنةِ التفاصيل»، كما يقول محمد الأحمد في حوارٍ شخصيّ. 
وهو ما جعل عملية تجنيس كتاباته في غاية الصعوبة، فكانت صفة الكتابة السرديّة هي أقرب توصيف فنيّ لما يكتب.
يؤشر بعض النقاد وأنا منهم صعوبة لغته، ولا سيّما في هذه المجموعة (حدائق الوجوه)، وهو أمر يمكن تفسيره إلى أنّه يكتب للنخبة، بل نخبة النخبة، فضلًا عن ذلك، إنَّ الغموض في لغته يعود إلى ثقافته الشاسعة وقراءاته المتنوعة، ورغبته في التجاوز، فهو ليس غموضًا والتباسًا في السياقات اللغويّة، بل غموض فنيّ دعت إليه طبيعة الكتابة الإبداعيّة التي تتطلب العمق في الصياغات، والتنوع في الأساليب، وهو أمرٌ ألحت عليه مناهج النقد الحديث ومن قبلها الناقد العربيّ عبد القاهر الجرجانيّ الذي أطلق عليها (المعاني الأُول والمعاني الثواني)، أو (معنى المعنى)، ثمّ جاءت النظريات النقديّة الحديثة لتفصّل فيها كثيرًا، فتطلق عليها البنيّة العميقة والبنية السطحيّة. 
ومن هنا ننظر إلى أهمية لغة محمد خضير في النهوض بلغة السرد العراقيّ، إلى جانب صفوة أخرى وضعت الكتابة السرديّة العراقيّة على الطريق الصحيح.
ومن هذا الباب ندخل عتبة كتابه (حدائق الوجوه) الصادرة عن مؤسسة المدى/ سوريا، 2008، إذ تأسست فكرته على «تأليف سيرة شخصية لبستاني استقرّت صورته في ذهني منذ منت طفلاً. 
كان ذلك البستاني رهين حديقة واسعة الأرجاء، وجليس أنواع لا تحصى من الورود والأشجار، ونديم أجناس لا تهدأ من الطير والفراش والديدان، ومرشد أصناف شتّى من الناس. 
كان المنتزهون الهائمون فرادى وأزواجاً في الحديقة يطهرون وحدتهم من هواجس الحصر والكبت بالاستمتاع ببساطة التكوين الطبيعي وتناسقه». 
 
مَن هذا البستاني؟
لا تحتاج الإجابةُ كدًّا ذهنيًّا كبيرًا، لنعرف أنَّ محمد خضير نفسه، هو ذلك البستاني الذي مرَّ بتلك الحدائق وتعرّف على تلك المدوّنات السرديّة والفلسفيّة والثقافيّة، وخَبر تجارب كثيرة وتعرّف أسماء لا حصر لها.
ويبدو أنَّ محمد خضير، حين قرر كتابة سيرته الشخصيّة فإنَّه لم يجد طريقة يعبر بها عن تحولاته الفكريّة والسرديّة، إلّا في كتابتها بطريقة فنيّة، لم يتنازل فيها عن سرديته لصالح شعريّة السيرة
الذاتيّة.
والشيء بالشيء يذكر، سألت مرة الناقد فاضل ثامر، لِمَ تأخر- إلى الآن- في كتابة سيرتك الشخصيّة؟ فكان جوابه: أنَّه لم يجد طريقةً مناسبةً لعرضها، فهو لا يريد أن يكتبها على طريقة السياسيين والفنانين. 
وهذا ما وجدته في كتاب محمد خضير الذي كتبه بطريقة لم يسبق إليها
 أحدٌ.
فقد أخذ من القصَّة نسيجها، ومن المقالة بناءها، ومن البحث الأدبي والتاريخي إفادته من المصادر، ومن السيرة الذاتيّة مقتطفات من الأحداث التي عاشها، ومن الفلسفة دأبها في البحث عن صورة العالم وجودًا ونشأة وانتهاءً.
 
ومن هنا، أزعم أن قارئ كتاب «حدائق الوجوه» قارئ خاص، لا يمكن لأيّة قراءة أن تعبر عنه، ما لم يلج إلى عوالمه ويمرُّ بحدائقه الواحدة تلو الأخرى، ففيه من متعة القراءة ما يوفره لها الغموض الذي يلتحف لغته وبناءه. 
 
لعل المتابع يسأل: أين الغموض الذي يلتحف بنيته السرديّة واللغويّة؟
يبدأ الاشتغال الجديد من طريقة التعريف بالبستاني الذي راح يقدمه الكاتب، وكأنَّ المقدمة عبارة عن التعريف الكليّ بمحمّد خضير، فهو يحدثنا عن حدائق على البسيطة، وبستانيّ يدور فيها بأقنعة سبعة، مرة بقناع (جبران)، وثانية بقناع (طاغور)، وثالثة بقناع (المعري)، وهكذا حتى يصل إلى الحديقة السابعة، وما دور البستاني إلّا ليروي خبر الحدائق السابقة واللاحقة: «فما أكثر البستانيين الذين سبقوني إلى حدائق الوجوه، وما أكثر الأقنعة الجميلة التي بعثرتها رياح الحديقة وزوابعها، ودفنتها بأوراق أشجارها، قبل أن تتمكن الوجوه من تذكر ماضيها، لكن الأقنعة الناجية من التفسّخ، هي ستروي حكايات الوجوه...». 
إنَّ فكرة الحدائق والوجوه لعبة طفوليّة ألقت بظلالها على مخيلة الكاتب وهو يعيش العقد السابع من عمره (لحظة تأليف الكتاب)، وكأنّه يقارب بين الحدائق أو الأماكن التي أضحت ذكرى تتقلص في مخيلة الناجين من الموت، وتموت في مخيلة آخرين من لفّتهم أيادي الموت، فمحمد خضير هو الرائيّ الذي يسرد لعبة الحدائق والوجوه، بعيدًا عن صورة السرد المركوز في الذاكرة: قصة، رواية. 
ليمتعنا بنوعٍ من الكتابة عصيّ على التجنيس، وهذه اللعبة واحدة من أقانيم الغموض التي يلوّح بها بعض قرّاء محمد خضير وهم يواجهون كتابته بأدواتهم
التقليديّة.
ولعل ما يشير إلى حالة الإنكسار التي تلمُّ بالكاتب وهو يدون سيرته الحدائقيّة، الصور التي رسمها لتلك الحدائق وتصل إلى شكلها 
الأجرد.
 «لم أسمع من بستاني تفسيرًا لتماثل الكوخ مع خان العالم، فقد ظلَّ سر الحديقة مغلقًا، حتّى الظهور الأجرد الأخير لصورة الحديقة، وكأني أدركت هذا التماثل في حين أنّي ما زلت واقفًا مكاني أمام البركة  الوسطى».
ص12.
لقد دوّنَ محمد خضير قصّة الحدائق التي زحف عليها الموت، فغطّى على كثيرٍ من صور الجمال، غيّب كثيرًا من الأقنعة التي كان بإمكانها الحديث عن حيواتها وأدوارها التي أدّتها، قبل أن ينقطع حبلُ الحياة، وتغدو في خبرِ كان.
«أدركت ما أدركته، وخبرت ما خبرته، وسعيت إلى أن تكون بستانيًّا بالمثابرة والترقي، فستمكث زمنًا في الحديقة، ثمّ متى حان قطافك تركت قناعك وانتقلت إلى خان العالم». 
 أزعم أنَّ البستاني محمد خضير، هو ذات البستاني الذي ينتمي إلى ثلّة كبيرة من البستانيين الذين غيبتهم الحياة ظاهرًا ثمّ أخذت بأيديهم إلى مرافئ الثبات والبقاء السرمديّ، فهو لا يكتب سيرته، فحسب بل يكتب سيرة هؤلاء: أبيقور، وطاغور، رودكي، وجلال الدين الرومي، وكشاجم، وعمر الخيام، وحافظ وسعدي.. 
وغيرهم.
وبعد فهذه المجموعة هي عبارة عن أقنعة ستة بستانيين، بست حكايات، مفردًا قناعًا سابعًا لنفسه، ليروي ما تبقى لديه من صور الحدائق التي وصلت إلى عوالم الجفاف. 
ربما سيأتي من يكمل لعبة هذه الأقنعة بعد عمر طويل لكاتبنا العزيز.
ففي حديقة الأعمار (الحديقة الوسطى)، تظهر مقدرة الكاتب الشعريّة، فالمستهل هو قصيدة نثر، مستوفيّة المواصفات التي حددتها (سوزان برنار):
«سيد الظلام، وسيد الأحلام والمقابر والليل المخمر، سيد الحراس والكلاب والأقفال والخناجر والرصاص..» ص 19.
 ثم يبدأ الاستهلال القصصي، ليعطي للنص صورته القصصيّة، فيقول: «كانت تلك واحدة من نزهاتك التي تقتاد فيها شخصياتك الممسوسة تحت جنح الظلام الأخير إلى مأواها الأخير، وهي بداية للحكاية التي تتناسل عنها حكايات كثيرة تشكّل مدار حديقة الأعمار وتستغرق من الكتاب ربعه: قناع أول: قناع أول الأبلية، والوجه رضيعًا، والوجه صبيًّا: نزيف الرغيف، والوجه شابَا شابًا: معلم الطبيعة... وهكذا حتى وجه أخير: الستّون». 
وواضح أنّه يلاحق ظل الحياة والموت، في سرد متماسك، ليصل إلى نتيجة: أنَّ ظلَّ الحياة يبقى هو الأكثر بقاءً وصمودًا بوجه الموت الذي يتخلّى دائمًا عن مكانِه لصالح الحياة.
في الحديقة الثانية حديقة الصمت، يستهلها بالحديث عن عمارة الصمت من خلال مقالة لـ (سعاد عبد علي) نشرتها في مجلة آفاق عربيّة عام 1993، ونقلت فيها رأيّا للويس كان: «في العمارة.. لا يرتبط الصمت والسكون بالصوت والحركة فحسب، فقد يتناول المعمار صمت العمارة وسكونها إزاء الصخب المتأني من صخب خطوطها وكتلتها وألوانها وموادها
وأشكالها». 
ثمّ يستمر في عرض المقالة لينتقل إلى ريشاردز انكلاند وينقل ما دونته (سعاد عبد علي)، ليصل إلى نتيجة مفادها: أنَّ الصمت بمفهومه ينبع من حالة الانكفاء الكامل على الذات، أو التوحّد التامّ مع الذات الداخليّة، وكما وصفه أيضا في بعض محاضراته فيما بعد، «أمّا الآخر، فينقل عن المقالة ذاتها: وعلى ما يبدو فإن أنكلاند يجد السكون في تضاد الظرف والمكان، في غير المألوف وغير المتوقع، ويضع التضاد في السكون من حيث القيم، فكيف يجمع السكون والتضاد معا والأخير أساسه الاختلاف، والتعارض، والتنوع، والصراع الذي هو جوهر الديناميكي للوجود..» ص59.
وهكذا يمضي في التجوال في حدائق الوجوه متنقلًا من عوالم الصمت إلى عوالم الضجيج، عبر (حديقة القرن) التي يكرّسها لماركيز، ليدون سيرته، وما تضمنته من مناطق صخب، وأضواء، لينقل ما صرخ به في السادس من آب عام 1986 في اجتماع استذكاري لضحايا قنبلة هيروشيما، راسمًا صورة مظلمة لحياة الإنسان ومستقبله في ظلِّ السيطرة النوويّة للدول الكبرى. 
ووسط هذه الحياة المضطربة فلا بدَّ أن يكون للحبِّ في سيرته ثمن فكانت روايته (الحب في زمن الكوليرا) سببًا في حصوله على جائزة نوبل. ينظر:  107.
وفي حديقة العالم يحدثنا فيها عن أثرٍ آخر من الآثار التي تركت تأثيرًا كبيرًا عليه، وهو (بورخيس) الذي تعرّف عليه عام 1979 بعد نشر قصّة له في مجلة الأقلام.
ويلخص تأثيره عليه بالقول: (لا أجد تسمية تصلح لوصف المؤثرات المتبادلة بين عقل وعقل، وبين اسم واسم، أفضل من تسمية «الجاذبيات المتوازنة».
إن بورخيس ليس ببورخيس إنّه اثنان يظهران بقناع مزدوج الذاكرة في موقعين مختلفين وزمنين متباعدين، أحدهما حقيقي والآخر ظل له...). واضح أنَّ فكرة الثنائيات قد سيطرت على تفكيره في مجمل كتاباته، وتحديداً (حدائق الوجوه).
نسج محمّد خضير لقاءً حلميًّا مع (بورخيس)، ليحيطنا بحجم إعجابه وتأثره بهذا الكتاب الذي منحه المتعة السرديّة في مجمل كتاباته. 
وقد حوّل حديقته هذه إلى سرد ما احتوته قصّة بورخيس (الخرائب الدائريَّة).
وهكذا يمضي محمد خضير في التجوال في حدائقه وصولًا إلى (حديقة الغفران) التي تمثل النهاية الحتميّة التي يتمناها البستانيّ بعد تجوالٍ واسعٍ.
وهكذا يجد الإجابة عن سؤال لطالما شغفنا به، وهو مدار بحث فلاسفة وعلماء كثيرين يتعلق بماهية الإنسان ووجوده في هذا الكون، فهل هو وجوه أم
أقنعة.
وأخيرًا يمكن القول: إنَّ محمد خضير على الرغم من علوِّ كعبِه في كتابة القصّة، لكنه في هذا الكتاب اجترح جنسًا أدبيّا جديدًا مكّنه من كتابة سيرته، مستعينًا بكمٍ هائلٍ من المصادر والأفكار والعلوم الفلسفيّة والاجتماعيّة.