مسرحة الأفكار في «عشرة على عشرة»

ثقافة 2022/06/13
...

 أ. د.  باسم الأعسم
 
لَمْ أَرَ في حياتي عرضا مسرحيّا قدم للأطفال، قد حققت تلك الاستجابة الوجدانيّة التلقائيّة، والتبادليّة السلوكيّة الواقعيّة الجميلة بين أفعال الخشبة وأفعال الصالة، أي ذلك التمازج والتبادل الأدائي بين الممثلين وردود أفعال الأطفال في عرض مسرحية (عشرة على عشرة)، تأليف الفنان ماجد درندش وإخراج الفنان حسين علي صالح الذي مثل دور الشرير في العرض فأبدع أيّما إبداع،  وكلاهما ماهر في صناعه المشاهد الجميلة.
وعلى الرغم من بساطة سينوغرافيا العرض وثبوتها، بسبب شح الانتاج، لكن المصمم الجمالي سهيل البياتي قد جسّد بيئة على وفق رؤية استثمرت المناطق الرئيسة في جغرافية المسرح بما متاح له من قطع ديكور وإكسسوار أريد لها أن تكون خلفيّة جماليّة وفنيّة لمتن النصّ المترع بالأفكار التربويّة والمفاهيم السلوكيّة الإنسانيّة والاجتماعيّة.
ومثلما أحاطت الأشجار بمنطقة الأداء، فإنَّ الخطاب التعليمي والتربوي قد كان العلامة السيميائيّة المفعمة بالمداليل على وفق ايقاع مموسق راقص، تجمل بأداء الممثلين العفوي حدَّ التماهي الحر مع الجمهور.
يعد هذا العمل من العروض الحركيّة، فيبدأ بالغناء والرقص والحركات التعبيريّة الباعثة على المتعة والمفارقة والاتصال الحميم مع الجمهور، وتلك  من أهم فواعل العرض الجماليَّة، إذ إن المؤلف والمخرج معا قد ركزا على الجسد وأداء الممثلين المشفوع بالإيقاعات الغنائيَّة الراقصة والإضاءة الملوّنة، فتوثّقت صلات الأطفال مع الممثلين بعد تحطيم الحواجز المفترضة بين الخشبة والصالة، فتعالت كركرات الأطفال، فالتحموا مع الممثلين، إذ نزل الممثلون الرئيسون الى الصالة، وصعد الأطفال الى المسرح، وكأنّهم يمثلون الدور الرئيس في العرض، وبهذا حقق المؤلف هدفه، والمخرج رسالته في تقديم عرض مسرحي تربوي وتعليمي، قل نظيره، توسل بالكلمة الطيبة، والاشارة الدالة، والحركات الموحية وكأنّ العرض بمثابة أغنية جميلة محببة للنفوس انطوت على توافق جميل بين الكلمات واللحن والغناء.
لقد كان العرض أقرب إلى الدرس العلمي والتربوي الممسرح، المعلمون هم الممثلون، والجمهور التلاميذ، يجيبون حين يسألون، في فضاء كرنفالي مثير.
لقد كان المؤلف ماجد درندش ذكيا عندما انتقى من مخيلته مشاهد ومفردات مفعمة بالحكمة والدرس البليغ، فمسرحها، مركزا على أهمية مفاهيم العقل والعمل والفكر، والسلوك الخير والجميل، ومن ثمَّ احترام الآخر، فاكتسب العرض جدواه، بعد أن أحاله المخرج حسين علي صالح إلى لعبة مسرحية ممتعة، بل الى كرنفال بهيج، بوصفه مختصا بعروض الأطفال وكيفية تحقيق المسافة الجماليّة، فكان العرض علاجا نفسيّا، وترويحيّا للأطفال خاصة، الذين هم غاية النص والعرض معا، إذ لم تشب العرض الرتابة الايقاعيّة الصوتيّة والصوريّة والحركيّة، ومن ذكاء المخرج أنّه عندما انقطع التيار الكهربائي في مسرح قصر الثقافة والفنون في الديوانيّة، حيث مكان العرض، اجتهد المخرج في استدعاء الأطفال الى خشبة المسرح، وراح يسألهم ويحاورهم ويستنطقهم في أثناء الظلام، وكأنّ هذا المشهد من صلب العرض، فهندس المخرج الفوضى بفنيّة وجمال، وتلك وظيفة المسرح، أن يهندس الفوضى والقبح ويحيلهما الى جمال مدهش.
لقد احتفى العرض بثلاثة ممثلين أكفاء، فكانوا على التوالي: الشبح القبيح، الذي جسّده بفنيّة واحتراف، وجمال عالٍ، المخرج والممثل حسين علي صالح، والفتى الوديع سعد شعبان صاحب الجسد المطواع، والمرونة الأدائيَّة المنضبطة، والصوت الجميل، والشخصيّة الثالثة عامل النظافة الممثل علي الغزي ذو الحضور الطيب.
ويشكل الصراع بين الجمال والقبح، والخير والشر، العلم والجهل، ثيمة رئيسة في نص العرض، مع التأكيد على أنّ القبح ليس في الشكل، وإنما في السلوك كما ورد في النص، والأجمل هو التحول الكلي أو النوعي في شخصية الرجل الشرير، دميم الخلقة، مندلق البطن وأجش الصوت، لكنه عبر دروس علمية وعملية تلقاها من الفتى المجتهد، قد تغير نحو الأفضل، من القبح في السلوك والشكل الى الجمال في الفكر والعمل، لأنه عمل او احترم الآخر، فأدرك جمال الأشياء، وتلك هي الثيمة التربوية التي شكلت بؤرة النص المضيئة، حتى نال الرجل الوحشي تقدير الأطفال وحبهم، فمنحوه درجة عشرة على عشرة، فكان هذا التحول السلوكي من أبرز ملامح هذا العرض بطبيعته الدائريّة، إذ يعود العرض مثلما بدأ، حيث تردد الأغنية التربوية (مدرستي حياتي.. مدرستي جميلة) ودوي التصفيق قد عمَّ فضاء القاعة التي غصت بالجمهور، رغبة في مشاهدة هذا العرض الجمالي والتربوي المثير، الذي اتخذ من البساطة والوضوح منطلقا لتجسير العلاقة مع الجمهور.
من جماليات العرض، عدم التكلف في الاداء التمثيلي لدى الممثل المخرج (حسين علي صالح) الذي تقمّص شخصية الرجل الوحش، فتماها مع الشخصية المفترضة، فأقنع الجميع بجمال وانسيابية وصدق تمثيله وتحول حالاته، وكذا حال الممثل (سعد شعبان) الذي كان يتنقل كفراشة بكل لياقة ولباقة واسترخاء، وكذا حال الممثل الهادئ (علي الغزي) عامل النظافة، ومن فرط تعلق الأطفال بالعرض صعدوا الى الخشبة يهنئون الممثلين.
 أدعو مخلصا وزارة التربية ان توافق على ان يقدم هذا العرض التربوي والتعليمي في المدارس لأهميته في بناء شخصية الطفل وتنمية ذائقته وتقويم سلوكه، إذ طالما عرض في بلدان عربية لأهميته.