الطبيعة جسداً أسطوريَّاً

ثقافة 2022/06/13
...

 ناجح المعموري
للسردية حضور ملحوظ، يضيء عناصر المروية التي تكون ذات وظيفة جنسيّة، وهي مكونة من عديد الوحدات التي تصوغ، من ثم السردية ذات التفاصيل المعرفة بالذي حصل وأحياناً تتكرر السردية ويضاف عليها وتقدم نصاً صورياً حاز على عديد حاضر من التمثيلات العاكسة للنص الكلامي/ الأدبي، وكلاهما يدعمان بعضهما البعض الآخر،  على الرغم من وجود مختلفات أسلوبيَّة بين الاثنين، وبالإمكان أن نشير إلى أن لكل طريقة النص الأدبي/ أو التمثيلات التصويريَّة، يمثل نفسه ويعرف بالذي حصل. 
ولكن المثير للاهتمام، هو ما يظهر من مضمون، أفكار، مفاهيم خاصة، وبالحقيقة ليست متباينة، وإنما متطابقة. لكن لا بدَّ من الإشارة لموقف ضروري وهو وجود تباين في بعض الأحيان. خصوصاً بالتمثيلات التصويريّة التي وجدت بأماكن أخرى ومن مدن بعيدة. وهذا يحصل بسبب النسخ والتكرر ونشوء تغيّر. والبؤرة المركزيّة باقية، لا تغفل ولا بد من التذكير بأنَّ عددا من الباحثين في مجال النصوص التاريخيّة قد وجدوا ما هو مغاير من النصوص الأدبيّة. أي حصول ما هو مفارق عما هو في السرديّة، المعبر عنها بالتمثيلات التصويريّة. 
وأشارت د. زينب البحراني إلى أن السرديّة تنطوي على إمكانات تجعل منها مجالاً أكثر ثراء، ومع أن الأسلوب الذي تتبناه طريقة المقارنة، من تجميع التفاصيل بما يلائم رسم صورة متكاملة. ولإدوارد سعيد دعوة اهتمت بها الدراسات التاريخيّة أو تاريخ الفن مؤداه أهمية الالتزام بقراءة متأنية وبالارتباط بالنص تعد مهمة أيضاً للعمل البصري. وبدل رفض كل تلك المناقشات النظريّة في السرديّة باعتبارها غير ذات صلة بموضوع المروية القديمة. بإمكاننا دراسة الكيفية التي يمكن بها للأعمال الآتية من بلاد ما بين النهرين القديمة أن تفيد وأن تسهم في هذا المجال من التفكير النقدي. 
يلعب الجنس بفاعلية المعروفة بالحياة والفكر العراقي القديم دوراً بالغ الأهمية، حيث يكون للفتاة العذراء وظيفة جديدة، وغير معهودة من قبل وتتعرف على عناصرها الخاصة عبر الخصب وعلاماته، والطهارة من الوظائف الفسلجية وتكون مستعدة ومؤهلة لدورة الخصب وتجديد الحياة واستمرار الانبعاث بشكل رمزي أو مادي، كل ذلك من خلال وظيفة الأنثى في الاتصال البايولوجي. 
قدمت د. زينب البحراني فحصاً جديداً وعميقاً لتمثيلات الجندر في الفن العراقي القديم من خلال كتابها (النساء في بابل/ الجندر والتمثيلات في بلاد بين النهرين). وأيضاً عبر التمثيلات السرديّة في النقوش الآشوريّة الحديثة. ونجحت في ترسيم توظيف جديد في الدراسات الخاصة بتاريخ الفن، فضلا عن أصول عميقة جداً عن الديانات التي كانت سائدة في العراق القديم. واتضحت المهارة والعقل الثقافي والنقدي في توظيف النظريّات الثقافيّة وتطبيقاتها على تمظهرات الفن القديم واستعانت أيضاً بالفلسفة والعلوم الإنسانيّة، كالتفكيك وعلم النص وقراءات لاكان وقدمت فحصاً مهماً لافتاً للنظر.
ما يثير الانتباه في كتابها «نساء بابل» هو الكشوف التفصيليّة للأعمال النحتيّة التي تميزت عبر تاريخ الفن في العراق القديم ودوره المركزي ضمن تنوعات فنون الشرق وريادته تاريخياً وحضوره الأول، وقبل بلاد الإغريق والرومان، واستفادتهما من المتحقق في العراق. 
 
الأعمال النحتيَّة  
يبدو الفعل الطبيعي مكوناً حاضراً ضمن الفعل البايولوجي الذي نستطيع أن نطلق عليه صفة السردية البايولوجية ما تستدعيه من مكونات جندرية وما يشير لها في الحياة وحصرياً من خلال الأعمال النحتية في البدء ولاحقاً من خلال المدونات الكتابية بعد اختراع التدوين.
إتضح الفعل الطبيعي، كما تصورته البنية الذهنيّة الأسطوريّة وقد تمَّ على النحو الذي يتمّ فيه الفعل الجنسي الإنساني. فالطبيعة تنتج نفسها وتعيد عملية الانتاج هذه بدافع جنسي كما قال د. الطيب تيزيني، وفي مثل هذا الحال، لا بدَّ أن يتم ذلك الفعل بسبب وجود عنصرين، هما الذكورة/ الأنوثة. إن الصورة الفنيّة المتبدّية عن تمثيل للأنوثة تتم على صعيد المؤسسة الدينيّة والاجتماعيّة ويكتسب لاحقاً بعداً طبيعياً/ جنسياً. لم يكن الإتصال الإدخالي/ الإلهي غاية لذّيَّة فقط، وإنّما هو وسيلة من أجل الخصب، وإدامة الحياة، والحفاظ على انسجام الكون، وضبط العلاقة التناوبيَّة بين الإجرام السماويّة، ومن دون هذا الاتصال الرمزي والبايولوجي، أيضا، لن يحدث شيء في الحياة ولا تتطور أبداً، لذا اهتمت البنية الذهنيّة الأسطوريّة في العراق القديم بالجنس كوظيفة، ولا يمكن عزله عن أركان الدولة الكونيّة وحركة الطبيعة. الجنس قوة فاعلة، تقف ضد الموت الذي كثيراً ما أثار خوف الإنسان القديم. وحفّزه من أجل الإبقاء على الحياة، وتطوير ديمومتها. وتمثيلاً لذلك من خلال وظائف الأم الكبرى وتمظهرات بعض تلك الوظائف الإخصابيَّة، وأبرز ملمح عرفه العراق القديم، هو الجنس المقدّس، والذي يتجسّد في كل جزء من أجزاء الطبيعة، وكان البستان/ والمزارع انعكاساً لقدرات الإله أنكي والأم الكبرى. 
أشهر التصاوير الآتية من بلاد ما بين النهرين، التي تمثل جماعاً وأكثرها انتشاراً، لوحات طينيّة تعود إلى بداية الألف الثانية قبل الميلاد. وهي تمثيلات للمرأة العارية حين يأتيها الرجل، وأحياناً تصور المرأة وهي تشرب من وعاء كبير بواسطة أنبوب صغير أنها تشرب الجعة. وكان سكان العراق القديم يشربون الجعة بواسطة أنابيب صغيرة لتصفية الترسبات. واعتبر وجود إبريق الجعة وتصفيف الشعر، الذي يصل إلى كتفيها ومعقوصاً من الخلف دليلاً على أن المرأة هي مومس في حانة أو ماخور. 
مشهد الماخور ليس الوسط الوحيد الذي يُصور فيه الجماع. وتوجد تصاوير تُظهر رجلاً وامرأة واقفان في وضع عناق وجهاً لوجه وغيرها من دون الإشارة الى أي محيط مكاني.. وهي تبدو مجرد تصاوير لوضع الجماع من دون أي محاولة لإضفاء سرديّة على الفعل، وفق د.زينب البحراني.
إنَّ الذكورة ذاتها لم تكن خارج نطاق ترتيب الجندر المعياري. وكان عري الذكور يظهر في مشاهد سرديّة عرفها تاريخ الفن العراقي القديم خلال القرن الرابع قبل الميلاد.
إنَّ تصاوير الإناث العاريات شائعة. وهن يعزفن آلات موسيقية في بلاد بين النهرين، بدءاً من الألف الثالثة قبل الميلاد، فإنَّ الموسيقيين الذكور، نادراً ما كانوا يصوّرون من دون ملابس. للإناث العاريات حضور على اللوحات الطينيّة، وهن يحملن طبلاً أو دفاً أو قيثارة. ورغم أن العري الأنثوي في تلك المشاهد قد يعكس عادة كانت تمارس فعلاً، وربما يصوّر رقصة شعبيّة، كانت تمثل جزءاً من المهرجانات المرتبطة بعشتار. واستمرت د. زينب البحراني بالقول مؤكدة على وجود فروق بين الفنانين والفنانات. الموسيقيون عراة وهم يحملون آلات وترية ذات عنق طويل وجسم صغير مدوّر ويظهرون في لوحات طينيّة.
اعتقد سكّان العراق القديم بأنَّ الجنس تعبير مباشر عن الحياة، والعلاقة بها، مثلما ينطوي على حلم التجدد، ولم تكن له تأثيرات سلبيّة. لذا تمّ تمجيده في النصوص الكتابيّة والتمثيلات الصوريّة، ربما لأنَّ الذي ينتج الأعمال النحتيّة، هو الكاهن الفنان ولا بدَّ له من ايضاح العتبة التي يذهب إليها.