بنية البحث العلميّ في الفلسفة

ثقافة 2022/06/13
...

 محمد حسين الرفاعي
 
بناء الطريق إلى العالَميَّة من موقع المجتمعات العربيَّة 
تنشر «الصباح» مقدمة كتاب «بنية البحث العلمي في الفلسفة وعلوم المجتمع والإنسان- دراسة في ميثودولوجيا (منهجيَّة) تحديث الحداثة» الذي سيصدر عن مركز دراسات فلسفة الدين- بغداد- بيروت، بالتعاون مع دار التنوير.
[I] في ضرورة إعادة التَّساؤل عن البحث العلميّ الحديث، في علوم المجتمع والإنسان: 
لا بُدَّ من أنْ يتوفَّر مشروع [اِستنهاض- تساؤل- العلم- بالمجتمع- والإنسان] في المجتمعات العربيَّة على دروس لجملة العلماء والفلاسفة والمفكرين والأساتذة الجامعيين والطلاب وكل مهتم. إنني، ههنا، ومن جهة الأزمة العِلميَّة داخل ضروب إنتاج الفكر: التَّفكير بعامَّةٍ، والتفكُّر بخاصَّةٍ، أضع الطريق نحو بناء أبحاث علميَّة- فلسفية حديثة، على نحو قوي وصارم، في التعامل مع موضوعات المجتمع والإنسان في بلداننا العربيَّة.
إنَّنا نتساءَل في إمكان بناء الطريق إلى التَّساؤل الإبستيمولوجي عن بِنيَة البحث العلميّ في الفلسفة، والسوسيولوجيا، من موقع المجتمعات العربيَّة. بهذه يمكننا أن نضطلع بتساؤل الاِنطلاق الآتي: أيَّةُ مساهماتٍ، وعلى أيِّ نحو يمكن أن تُصبح عالَميَّة؛ بعدَ أن تكون قد أُخِذَت بوصفها فعلاً فلسفيَّاً- علميَّاً حديثاً؟ ضمن هذا التَّساؤل الأولي البسيط نعتبر أن ثَمَّةَ بداهات علميَّة يجب أن ننطلق منها. وهي على النحو الآتي: 
← في كتابي الأوَّل "إشكاليَّة التُّراث- والحداثة في الفكر العربيّ المعاصر- مقدمة نظرية في قراءة المعرفة السُّوسيولوجيَّة الآتية إلينا من بلدان العلم في الغرب (دراسة في إبستيمولوجيا السُّوسيولوجيا)" وضعت إمكانات الكشف عن العقبة المعرفيَّة التي تحول من دون إنتاج المعرفة العِلميَّة الحديث في بلداننا العربيَّة. 
← في كتابي الثَّاني "إبستيمولوجيا السُّوسيولوجيا" تم تبيان الطريق نحو الأرضيَّة الإبستيمولوجيَّة للوعي بالبحث العلميّ، عَبرَ التوقف عند أهم عناصر ومكوِّنات تحدِّدُ الأرضيَّة على نحو إبستيمولوجي- علمي. 
← في الثُلاثيَّة- كتابي الثَّالث والرابع والخامس- تم تقويم المشروع في كليَّتِهِ من خلال تفكيك المعرفة في بلداننا في التعالق مع الأصول المجتمعيَّة التي من شأنها. 
← هذا الكتاب يتضمَّنُ كيفيَّة بناء [الموضوع- والمنهج] في الممارسة العِلميَّة، أيَّة ممارسة علميَّة في الفلسفة، وعلوم المجتمع والإنسان، ومن خلالها. وهو يقوم على بداهة أصليَّة هي أن البحث العلميّ بناءٌ، وخلقٌ، وصُنع. إنَّه حرفة- مهنة حديثة بحداثة التَّساؤل الفلسفي- العلميّ حول الوجود، والعالم، والمجتمع، والإنسان. 
وكوني أخذت على عاتقي أن أكون أزمةً، في المعنى العلميّ للمفهوم، فإنَّ الدروس هذه، كلها تقع في موقع الأزمة العِلميَّة- الفلسفيَّة؛ كونها تُؤَسِّسُ لإشكالات، وإشكاليات جديدة، ومن جديد في كلِّ مرة. لأنَّ ما يجب أن نعلِّمَه وأن نتعلَّمَه إنَّما هو كيفيَّة بناء العقل على نحو بحيث يُصبح عقلاً متسائِلاً قادرًا على بناء الإشكاليات، أي ممارسة الأشكلة؛ وليس اِستنساخ العقول كما يجري في الآكاديميات  والجامعات العربيَّة. إنَّ التعليم والتعلم إنَّما هما الأشكلة والاِستشكال من جديد، في كلِّ مرة. إنهما في محايثة مع ماهيَّة المعرفة بوصفها نقل
الحرفة. أعني أنَّ أستاذًا جامعيَّاً يعلِّمُ أستاذًا لا طالبًا؛ وأنَّ فيلسوفًا يعلِّمُ فيلسوفًا لا تابعًا؛ وأنَّ مفكِّرًا يعلِّمُ مفكِّرًا لا مُقلِّدًا... وهكذا
دَوالَيك.
 
[II] بناء التَّساؤل العلميّ في البلدان العربيَّة: 
على أرضيَّة الفكر العربيّ الحديث اِرتسمت معالِم البحث العلميّ على نحو بحيث هو يقدِّم نفسه بوصفه تساؤلاً عن الواقع المجتمعيّ العربيّ بعامَّةٍ اِنطلاقًا من علاقته الصريحة بالعالميَّة. ويستمدُّ هذا الضرب من التقديم مبرِّره، دائماً قَبْلِيَّاً، من جملة بداهات فكريَّة تقوم، في كليتها، على موقف من المعرفة الفلسفيَّة والعلميَّة الحديثة، على هذا النحو أو ذاك. 
وعلى هذه الأرضيَّة قام الفكر العربيّ المعاصر، في كُليَّتِهِ، على هذه العلاقة، ويستمر في قيامه على هذه العلاقة. وما غاب وحُجب، في رداء الموقف الآيديولوجي، في كُلِّ مَرَّةٍ، إنَّما هو العلمُ، والمعرفة العِلميَّة، والتَّساؤل العلميّ الحديث عن الواقع المجتمعيّ العربيّ المحسوس.
ولكن، من جهة إنَّ البداهة الفكريَّة لا يمكن أن تقوم إلَّا بعد التوفُّر على اِفتراضات وتصوُّرات بعينها، فإنَّه، أوَّل بدء، علينا أن نخصِّصَ الاِفتراضات والتصوُّرات العامَّة التي من شأن الفكر العربيّ الحديث والمعاصر؛ قَبلَ الولوج إلى ضروب التعرُّف إلى التَّساؤل العلميّ.
 
[II-I] الاِفتراضات والتصوُّرات المُسبَّقة في الفكر العربيّ الحديث والمعاصر في التعرُّف إلى التَّساؤل الفلسفي، والعلمي، بموضوعات المجتمع والإنسان: 
← إنَّ التَّساؤل عن أصل البحث العلميّ، وماهيَّته الفلسفيَّة، لهو منسيٌّ منذ أن تعرَّفَت المجتمعات العربيَّة على المعرفة من خلال المواقف التي اِتخذتها الآيديولوجيات السياسية، في حقل الصراع المَبني قبليَّاً على مصالحها. وإنَّ تساؤلاً من هذا النوع لا يخضع فقط للنسيان؛ بل للحجب والتغييب. وذلك، يرتبط بأن المصلحة داخل الفعل السياسي ترتبط، على هذا النحو أو ذاك، بحجب وعي الفعل السياسي. 
← وإذا نحن بحثنا- باِعتبار أن عصر ما بعد الثورة السايبرانيَّة يعدُّ التَّساؤل عن الوجود، والعالَم، والمجتمع، والإنسانِ، ضرباً من ضروب الولوج الأصليِّ إلى [العالَميَّة]- إذا بحثنا عن عمليات الحجب والتغييب، فإنَّنا سوف نجدها مباشرةً في ماهيَّة القهر والإرغام والجَبر التي من شأن السلطة. ومن جهة أن هذه الأخيرة تعد التَّساؤل عن ماهيتها ضرباً من ضروب الخروج عن المؤسسة، باِعتبار أن المؤسسة تحدِّدُ، دائماً قَبْلِيَّاً، [النقيضَ- الخاصّ]: نقيضها هي الخاصّ بها، و[الخارج- الخاصّ]: الخارج عنها هي الخاصّ بها، والفعل المُضاد الخاصّ بها، والنقد المضاد الخاصّ بها، فإنَّ شيئاً كالتَّساؤل عن البحث العلميّ، إنَّما هو، بداهةً، يخرج عن الوعي المجتمعيّ العامّ؛ وينسحب هذا الغياب، بعمليات إعادة إنتاج المؤسسة لذاتها، إلى مستوى الآكاديميا، والجامعة. 
← لكنَّ تساؤلَ البحث العلميّ، الذي لم يُستنهض، على نحو أصليّ، منذ قرنين من الزمان الكرونولوجي، يتقوَّمُ، أوَّل بدءٍ، على ماهيَّة الآكاديميا- الجامعة، على نحو عالميّ؛ من جهة أنَّها مفهوم حديث يقوم على بداهات عصر الحداثة؛ وهي، في كل الأحايين، أخذت على عاتقها [بناء- المفهوم Conceptualization]، بالاِنطلاق من ماهيَّة نقل، واِنتقال، وتعليم المعرفة الفلسفيَّة والعلميَّة الحديثة. وهكذا، إنَّ هذه [الحديثةَ] تأتي من تحديث التَّساؤل العلميّ في كل الأحايين، ضمن العالَميَّة، أي في كل مكان، وزمان، يعرفه عصر بعينه. 
← ولكن، ضمن مضمون هذه الحديثة، أخذت الآيديولوجيات السياسيَّة الآكاديميا- الجامعةَ على نحو بحيث هي لا فقط غَيَّبت وحجبت ماهيَّة الوظيفة التي من شأنها، بل هي جعلت من وظيفة الآكاديميا، ضرباً من ضروب الفعل السياسي. ولم تمارس المهنة- الحِرفة الآكاديمية إلَّا بوصفها رافعةً للفعل السياسي. إنَّها وسيلة وأداة الفعل السياسي في الظفر بطبقة المعرفة؛ وفي المآل، الاِستحواذ
عليها. 
← طبقةُ المعرفة هذه، وعلى الرَّغْمِ مِنْ أنَّها تتوفَّر على شروط إمكان واقعيَّة- موضوعيَّة، توفِّرها لها السلطة، في ممارسة الحَجْبِ، فإنَّها لا تمارسه إلَّا [من- أجل-...]. تُمارس ذلك باِختلاف وتعدُّد وتنوُّعٍ، يبدو في الوهلة الأولى على أنَّه اِختلاف أصليّ، وتعدُّد أصليٌّ، وتنوُّعٌ أصليّ. ولكن ذلك، يصطدم بالتَّساؤل الأصليّ الذي يذهب إلى ما بعد التَّمظهر: ضروب الظهور الواقعيِّ الذي يحتجب أكثر مما يظهر. إنَّه حجاب التسلُّط وقد صارَ واقعًا مُضافًا إلى الواقع الذي لم يأتِ إلى التَّساؤل بعد. 
 
[II-II] مجتمع المعرفة العِلميَّة The Scientific Knowledge Society:
ما هي الطبقات الفرعية داخل هذه الطبقة؟ وبأية معانٍ يمكننا أن نتساءلَ عنها؟ وضمن أيَّة شروط موضوعيَّة؟ 
في الحقيقة، ضمن هذه الطبقة، نتساءَل عن كيفِ تكوينها لمجتمع يتوفَّر على كلِّ السمات المميِّزة لـ[المجتمعيِّ]. وعلى الرَّغْمِ مِنْ أنَّه لا يمكن أن يُفهم تساؤل العلم وممارسته، اليومَ، إلاّ بوصفه تساؤلاً قائماً على الـ[ههنا- والآن]، وفضلا عن أنَّ التَّساؤل هذا لم يتوفَّر على أرضيَّة فلسفيَّة- وعلميَّة قَبليَّة من شأنه، ومن حيثُ أنَّ فهمًا ما للموضوع موضعَ [التَّساؤل- والتفكير- والفهم]، ومن ثم [المساءَلة- الأشكلة]، لم يُظفر به إلى الآن، فإنّه علينا أن نفهم الممارسة ههنا من جهة أنَّ قِوامَها إنَّما هو يحدَّد بواسطة الذَّات الفاعلة علميَّاً- وفلسفيَّاً، أي الذَّات الآكاديمية على نحو
 بحثي. 
إنَّ ذلك، إذا ما أُخِذَ من جذره، أي من تخصيص التَّساؤل ضمن بِنيَة الفهم الجديدة، يشير إلى طبقات أربع: 
I -  طبقة الممارسة العِلميَّة- الفلسفيَّة المأخوذة بالسرد والعرض والوصف التاريخي.
II- طبقة الممارسة العِلميَّة- والفلسفيَّة المسكونة في الواقع، المتطابقة معه.
III- طبقة الممارسة العِلميَّة- والفلسفيَّة التي يكون الهاجس الأصليّ لديها قد يتمثَّل بالتغيير المجتمعيّ.
IV- طبقة الممارسة العِلميَّة- والفلسفيَّة العالَميَّة، أي تلك التي تأخذ على عاتقها أن تشارك (من الشراكة) في الفعل المعرفيّ العالمي: تقوم على تساؤل عالَميَّة المعرفة العِلميَّة والفلسفية الحديثة، وتضطلع بممارسات وحدة [التَّساؤل- والتفكير- والفهم] التي من شأن [التعدُّد- في- الفهم] الذي للعالميَّة. 
لكل طبقة من هذه الطبقات ممارسات موضوعيَّة ومنهجيَّة هي تُفهم، بالتوقف عند المحطات الإبستيمولوجيَّة الآتية:
I- غياب [حقل- الفهم] الخاصّ بالممارسة العِلميَّة، وكيفِ هذا الغياب.
II- ضروب التحديد السياسيَّة للمعرفة العِلميَّة، وكيفِ هذا التحديد.
III- الصراع المعرفيّ القائم على مصلحة آيديولوجيا الهوية، ومكوِّنات هذا الصراع.
IV- [اِستنساخ- المنهج] من خارج حقل الموضوع، والموضوعيَّة الخاصَّة بالموضوع. 
وفي الحقل نفسه، تقوم هذه الممارسات في المجتمعات العربيَّة، وتحتل هذه الطبقات المعرفيَّة مكاناً- مكانةً لها، وفقاً لشروط إمكان السلطة التي بدورها تحدِّدُ أرضيَّات إبستيمولوجيَّة- مجتمعيَّة لممارسة المعرفة، وتحديدها. هي، على أقل تقدير، الآتية: 
 I-I- [المجتمعيُّ- المعرفيُّ] المتكيِّف مع الواقع المأسَسي (من المؤسسة المجتمعيَّة، ومؤسسة المؤسسات المجتمعيَّة أي الدولة)، في الحفاظ على الهوية، وآيديولوجيا الهوية. 
I-II- [المجتمعيُّ- المعرفيُّ] الذي يمارس [النقد- والنقد المضاد].
I-III- [المجتمعيُّ- المعرفيُّ] الذي يرفع شعار التغيير وفقاً لأرضية مجتمعيَّة وتاريخية يحدِّدها [حقل- الفهم] الخاصّ بها. 
I-IV- [المجتمعيُّ- المعرفيُّ] الذي يأخذ منحى فردانيَّا ويُحدِّد ماهيَّة وكيفيَّة ممارسة الفردانيَّة آيديولوجيَّاً. 
I-V- [المجتمعيُّ- المعرفيُّ] الذي، بعد ظفره بالسلطة العِلميَّة، يستخدم الجهاز النظريّ- الميثودولوجي القائم على آيديولوجيا هوية، قبليَّاً، في نقد السلطة السياسيَّة، وعلاقاتها.
وتقوم المجتمعيَّاتُ المعرفيَّةُ، في البلدان العربيَّة، على الأرضيَّات الإبستيمولوجيَّة الخمس أعلاه، أي على شروط إمكان توفِّرها لها حقول الفهم الخاصَّة بمجتمع المعرفة في بلداننا العربيَّة. ومنها، في عالَمنا العربيّ، [مجتمعيَّاتٌ- معرفيَّةٌ] أربعة على أقل تقدير: 
I- المجتمعيّ الدِّيني، II- المجتمعيّ الماركسي، III- المجتمعيّ الليبرالي (العلماني)، IV- المجتمعيّ القومي. 
ولكن، لا يمكن التوفُّر على أرضيَّة التَّساؤل عنها إلَّا بوصفها قد قامت على شروط إمكان مجتمعيَّة يُحدِّدها [المجتمعيّ- الكُلِّيّ] أو بـ[مجتمعيٍّ] بعينه من [المجتمعيّ- الكُلِّيّ]. هكذا يقوم تساؤل البحث العلميّ في الفكر العربيّ الحديث والمعاصر؛ وهو يضع جانبًا التَّساؤل- التَّساؤلات الآتية: كيف يجب أن نتساءَل عن الفكر؟ ونتاجِ الفكر، أي المعرفة؟ والمعرفة العِلميَّة؟ والمعرفة الفلسفيَّة؟ والمعرفة التي تأخذ على عاتقها بناء الدولة والمجتمع؟...وإلخ. ولكن، كيف يمكن أن نضطلع بتساؤل أصليّ عن إنتاج المعرفة العِلميَّة التي تتوفَّر على إمكان بناء المجتمع والإنسان، ومن ثمَّ الدولة؟ إنَّه تساؤل في وحدة مع تساؤل الحداثة. 
 
[III] تحديث الحداثة وتجديد العقلانيَّة ضمن البحث العلميّ في المجتمع والإنسان: 
← ليست الحداثة مشروعاً نظريَّاً قد بدأ في لحظة من التاريخ الأُنطولوجي للإنسان، والمجتمع، وقد اِنتهى في لحظة منه. ولا هي أيضاً ضربٌ من ضروب التَّفكير الذي يريد أن ينحصر في حدود الجامعات والآكاديميات. إنَّها ليست نظرية ولا هي تأخذ منحى بناء هوية خاصَّة بها تتوقف عند مستوى ذات الحداثة. الحداثة، في منبت ماهيَّتِهِا، متى أُخِذَت من تساؤل الحداثة: أي التَّساؤل الذي ينطلق من العقل، إليه، إنَّما هي مشروعٌ كُلِّيٌّ عالميٌّ يضطلع بإنتاج الإنسان الجديد، والمجتمع الجديد. في هذا المعنى، واِنطلاقًا منه، تعني الحداثة [بناء- العقل- في- كلِّ- مرَّةٍ- و- مِن- جديد].   ولكن، ماذا يهمنا من الحداثة، في بناء البحث العلميّ؟ وكيف تأتي الحداثة، في كل الأحايين، إلى البحث العلميّ في موضوعات المجتمع والإنسان؟ وهل نتوفر على إمكان من أجل بناء بحث علمي خاصٍّ بالاِنطلاق من موضوعات خاصَّة ببلداننا العربيَّة، ومجتمعاتنا العربيَّة؟ 
في الحقيقة، ينتمي هذا التَّساؤل إلى ثُنائيَّة، في جذرها، هي آيديولوجية. تأخذ على عاتقها حجب روح العلم، والتفكير العلميّ، والفلسفي الحديث. ثَمَّةَ عالميَّة دائماً قَبْلِيَّاً في البحث العلميّ، ومنه، أولا يكون. 
إنَّ هذا التَّساؤل ليس تساؤلاً عالميَّاً على نحو علمي. إنَّه تساؤلٌ محلِّيٌّ على نحو آيديولوجي، في المعنى الماركسي لمفهوم الآيديولوجيا- أي قلب وتزييف الواقع. 
 
[IV] في حرفة الأستاذ، أو تعليم البحث العلميّ بوصفه حِرفة، ودرسُ البناء فيه: 
لا تتوقف مهمة الأستاذ الجامعي، في حرفة الباحث، وحرفة البحث العلميّ، عند حدود نقل المعرفة العِلميَّة والفلسفيَّة الحديثة، من جهة كونها ضاربةً في جذور مؤسسة العلم العالَميَّة. إنَّها تأخذ، فوقَ ذلك، منحى [أن- تكون- تأسيساً- جديداً- قائماً- بحدِّ- ذاته]. وإنَّ ذلك لهو، فضلا عن اِنتقال النظريَّات والمفاهيم والمناهج العِلميَّة الحديثة إلى الطالب، إنَّما هو تعليم [كيفيَّة- بناء- التَّساؤلات- الجديدة]، و[كيفيَّة- خلق- طُرق- التَّفكير- الجديدة]، و[كيفيَّة- صُنع- الأفهام] العِلميَّة والفلسفيَّة الجديدة، في موضوعات العالَم، والوجود، و[الوجود- في- العالَم]، والمجتمع، والإنسان، و[الإنسان- في- المجتمع]. وهكذا، نكون أمام أوَّل الطريق نحو تخصيص بِنيويٍّ يتعلَّق بكيفِ تُؤْخَذُ المعرفة العِلميَّة والفلسفيَّة، وكيف يتمُّ تحديد ماهيَّتها، وخصوصيَّتها، وطبيعتها، [في- كُلِّ- مَرَّةٍ] من جديد، وفي كل الأحايين. ولكن، بأيةِ معانٍ يمكننا أن نتساءل عن الجديد الذي يُضاف، وكيف هو يتوفَّر على شروط إمكان هذه الإضافة، إلى [مؤسسة- العلم]؟
 
[V] درسُ الدُّروس: أو لماذا يجب أن نتعلَّم كيف نعلّمُ البحثَ العلميّ؟ 
ثَمَّةَ معضلة آكاديمية في وجه عمل الأستاذ الجامعي تتمثَّل في التناقض البنيوي في حرفته؛ من جهة أولى، ضرورة تعليم الطالب الجامعي محطات البحث العلميّ، وبنائها، ومن جهةٍ ثانية، لا يمكن تعليم الطالب الجامعي محطات البحث العلميّ باِعتبارها لا تُعلَّمُ إلَّا من خلال الممارسة؛ ومن جهة ثالثة، إنَّ ذاتًا هي موضوعُ ذاتِها عليها أن تتعلَّمَ [كيفَ- أخذ-
المسافة]. وفي هذه الحال، يُصبح التَّساؤل عن الميثودولوجيا، وبناء البحث العلميّ في علوم المجتمع والإنسان، متوفِّرًا على مبرِّرَ وجوده. وعلى ذلك، يقوم درسٌ هو درسُ الدُّروس في إنتاج وكيفيَّة إنتاج المعرفة الفلسفيَّة- والعلميَّة الحديثة.