البناءات الفكريَّة والتنظيميَّة للإصلاحيَّة الإيرانيَّة

قضايا عربية ودولية 2022/06/14
...

 جواد علي كسار
 
بعيداً عن الشواغل الانتخابيَّة لكن من دون انفصال عنها، يعيش تيار الحركة الإصلاحية الإيرانية مراجعات تقويمية مكثّفة على المستويين الفكري والتنظيمي. يشهد على هذا المسار ويؤكده، المراجعات التي شهدتها بعض أبرز تنظيمات هذا التيار بخطيه البارزين اللذين ينتميان إلى محمد خاتمي وهاشمي رفسنجاني، كما حصل مع حزب "اتحاد ملت" وحزب "كارگزاران سازندگي" وحزب "اعتماد ملي"؛ كما أيضاً على مستوى إعادة المراجعة الفكرية، وما شهدناه من قراءات متجدّدة لأبرز أفكار الحركة الإصلاحية ومواقفها، ساهم فيها عدد من الرموز الفكرية والسياسية الكبرى لهذا التيار، بمختلف انتماءاتهم، كما هو الحال مع (سعيد حجاريان ومصطفى تاج زاده وصادق زيبا كلام ومحمد عطريانفر وعلوي تبار وعباس عبدي ومحمد علي أبطحي، وحسين مرعشي ومحمد حسين كرباسجي ومحمد سلامتي وبهزاد نبوي ومحسن آرمين وإسحاق جهانگيري وعلي مطهري ومحمد رضا عارف)، هكذا إلى العشرات غيرهم من طيف الإصلاحية الفكرية والسياسية، ومواقفهم التي تتردّد بين القائل بفشل هذه الحركة بل وعقمها، وبين من يذهب إلى أنها هي الخيار الأوحد لنهوض إيران من كبواتها.
 
اللحظة التأسيسية
ما نراه أنَّ من الصعب فهم هذه المراجعات، من دون معرفة السياق التأريخي الذي ولدت فيه الحركة الإصلاحية الإيرانية الثانية (تمييزاً لها عن الحركة الإصلاحية الأولى التي اقترنت بالحركة الدستورية عام 1906م فما بعد) بوصف هذا السياق هو المحضن السياسي والاجتماعي والأيديولوجي لولادة هذه الحركة، وتالياً لمنظوماتها في الفكر والسياسة والاقتصاد.
عندما نضع اليد على أول حكومة في عصر ما بعد الثورة الإسلامية، أقصد بها حكومة مهدي بازرگان (1907 - 1995م) نلحظ أنَّ الغالبية العظمى فيها تنتمي تنظيمياً إلى حركة الحرية (نهضت آزادى) البازرگانية، والجبهة الوطنية (جبهةء ملى) المصدقية (نسبة إلى محمد مصدق) والاتحاد الإسلامي للمهندسين (انجمن اسلامى مهندسين) وحزب جاما (جنبش انقلابي مردم ايران = الحركة الثورية لشعب إيران) وحزب الأمة الإيرانية (حزب ملت ايران) مع عدد من المستقلين.
بلغة الأرقام كانت حصة حركة الحرية في أول وزارة هي ستة وزراء، والجبهة الوطنية ثلاثة، والاتحاد الإسلامي للمهندسين أربعة، وحزب جاما اثنان، وحزب الأمة الإيرانية وزير واحد. لم تنبثق الخريطة الوزارية الأولى هذه، عن خطوط وأحزاب وصراع جبهات أيديولوجية، قدر ما عكست قناعة مهدي بازرگان في إدارة البلاد ضمن تصوّره الخاص، وبانحياز واضح إلى أن تكون الحكومة في الداخل حكومة تكنوقراط، قادرة على النهوض بمسؤوليات الحكم في الفترة الانتقالية، وأن تكون مقبولة في الخارج، وبذلك لم يكن لها أي صفة أيديولوجية.
لكن ما حصل بعد ذلك وبأثرٍ رجعي، أنَّ هذه الحكومة حملت في التصنيف الأيديولوجي صفة "الليبرالية"، ووُضعت عبر قراءة ارتدادية متأخرة عن زمنها، في خانة التضادّ مع خطّ الثورة؛ هذا الخطّ الذي سرعان ما تبلور اصطلاحياً، تحت عنوان "خط الإمام" (المقصود به السيد الخميني) لنكون بذلك إزاء أول حلقة تأسيسية للإصلاحية الحالية، بدأت مع "خطّ الإمام"، ثمّ تطوّرت إلى "خطّ اليسار" بوجهيه التقليدي والحديث، لتؤول الأمور بعد ذلك إلى "الإصلاحية الخاتمية" وإلى جوارها بعد سنوات "الإصلاحية الرفسنجانية" وما تمخض عنهما من تنظيمات وواجهات.
 
بني صدر والاستقطاب
لأسباب تعود إلى عنفوان الحالة الثورية بداية الانتصار، والأهمّ من ذلك شخصية بازرگان وتكوينه الفكري والمهني والاجتماعي، لم تقاوم حكومته إلا أقلّ من تسعة أشهر، عندما قدّم بازرگان استقالته بتأريخ 5 تشرين الثاني 1979م، بعد صدمة احتلال السفارة الأميركية بطهران، لتتحوّل الحكومة إلى إشراف مجلس قيادة الثورة، هذا المجلس الذي عدّل الميزان في تركيبتها نسبياً، لصالح ما راح يتبلور تحت عنوان "خطّ الثورة"، ثمّ "خطّ الإمام" بعد ذلك، عندما أقحم في الوزارة أبو الحسن بني صدر للخارجية، وهاشمي رفسنجاني للداخلية، ومحمد حسيني بهشتي للعدل، وموسى زرگر للصحة، وحسن عباس بور للطاقة، ومحمد رضا نعمت زاده للعمل، وهكذا.
سجّلت التطوّرات اللاحقة ميولاً أكبر إلى تكوين الاستقطاب السياسي، بعد الانتخابات الرئاسية الأولى التي فاز بها أبو الحسن بني صدر (1933 - 2021م) في شباط 1980م، حين أُجبر على قبول محمد علي رجائي رئيساً للوزراء، ومير حسين موسوي للخارجية، ومحمد سلامتي للزراعة، وبهزاد نبوي وزير دولة للشؤون التنفيذية، وهكذا.
ما يهمّنا في لحظة بني صدر هو شخصيته الحادة القلقة، التي أججت الصراع الداخلي، وبلورت الخطوط الأيديولوجية لهذا الصراع، على أساس الاستقطاب الثنائي بين "خطّ الثورة"، الذي اكتسب في هذه اللحظة وصف "خطّ الإمام" و"الخطّ الليبرالي المتغرّب" الذي شمل بني صدر ومحازبيه ومناصريه، وامتدّ بأثر رجعي إلى حكومة بازرگان.
كان بازرگان عاقلاً بما فيه الكفاية؛ آية ذلك أنه عندما عجز عن التسوية قدّم استقالته على نحو هادئ خالٍ من الإثارة والصخب وتحريك الشارع، فضلاً عن جرّه إلى الصراع والدموية، على عكس ما حصل مع بني صدر الذي مال إلى التصعيد، رافضاً منطق التسوية الذي كان يرغب به السيد الخميني، جاراً الاختلاف إلى الشارع، وقد تأجّج بصراع دموي عنيف بين قاعدتي الخطين (خطّ الإمام والخط الليبرالي) متمثلين أساساً بمواجهات حادة، بين جماهير حزب الله وأنصار منظمة مجاهدي خلق.
انتهت هذه الحلقة من الصراع بإقالة بني صدر في حزيران 1981م، لينتصر الخطّ الثوري، الذي تبلور أيديولوجياً تحت اسم خطّ الإمام، واستطاع أن يثبّت ركائزه في الحياة السياسية الإيرانية، مع حكومتي مير حسين موسوي الأولى والثانية (1981 - 1989م).
 
موسوي وهيمنة اليسار
لم يظهر مصطلح اليسار إلا لاحقاً، لكن كانت له الهيمنة على مقاليد الحياة السياسية، تحت عنوان "قوى الثورة" وجماهیر "حزب الله" والأجمع منهما، مصطلح "خطّ الإمام"، إذ كانت له السلطة كاملاً في القوتين التنفيذية والقضائية، واليد النافذة في السلطة التشريعية.
تنظيمياً فقد اليسار قاعدته الحزبية بتجميد منظمة مجاهدي الثورة الإسلامية (جماعة بهزاد نبوي) والحزب الجمهوري الإسلامي، فراح يمارس دوره عبر عدد من الأطر والواجهات الثقافية والطلابية، إضافة إلى وجوده الفاعل في أبرز تنظيم لرجال الدين، أقصد به "جماعة العلماء المجاهدين". أما فكرياً فلم يكن لليسار شأن يُذكر في بناء منظومات فكرية، بل هي مجرّد رؤى نظرية بسيطة، يدور أغلبها حول دور الدولة في الاقتصاد والثقافة والحياة العامة للناس، إذ كان اليسار ينحاز إلى دور مطلق للحكومة في هذه المرافق، مع سياسة خارجية ثورية متطرّفة، تؤمن بالصراع أساساً للعلاقة مع الإقليم والقوى العالمية، وتجنح إلى تصدير الثورة بالحرب والمقاومة وغيرها.
ربما جاءت أولى تجليات الاستقطاب على أساس فكري مبرمج، بالانشقاق الذي شهدته جماعة علماء الدين المجاهدين عام 1988م، وهي تتحوّل علناً إلى كيانين تنظيميين متنافسين بل متصادمين، هما: "جامعه روحانيت مبارز" (جماعة العلماء المجاهدين) وهي التنظيم الأساسي، و"مجمع روحانيون مبارز" (رابطة العلماء المجاهدين) وهي التنظيم المنشقّ. وقد بدأ الانشقاق بانسحاب مهدي كروبي ومحمود دعائي وجلالي خميني من اللجنة المركزية للجماعة الأصل، ثمّ انضمام عدد آخر من رجال الدين إليهم، منهم صادق خلخالي وموسوي خوئينيها وعبد الكريم أردبيلي ومحمد خاتمي وعبد الواحد لاري وهادي خامنئي ومحمد علي أبطحي، وقد أصدرت الرابطة صحيفة "سلام" ذائعة الصيت، وإلى جوارها صحيفة "جهان اسلام" (العالم الإسلامي)، صاحب امتيازها المسؤول عنها هادي خامنئي شقيق المرشد.
 
هزيمة اليسار
بوفاة السيد الخميني والتحوّل إلى النظام الرئاسي، ووصول هاشمي رفسنجاني إلى الرئاسة عام 1989م، بدأت قصة انحسار اليسار عن مواقعه في الدولة والمجتمع، واتجه صوب العزلة في مؤشر يدل ليس على تبدّل معادلة الحكم وموازين القوى السياسية وحسب، بل تغيّر أولويات السلطة ومن ورائها المزاج العام للناس؛ من الحرب إلى مرحلة التنمية والبناء، ومن الثورية المتطرّفة إلى السلام الاجتماعي والتركيز على إيران، ومشكلات ما بعد عقد من الثورة والحرب.
كرّست هذا التحوّل وكشفت عن مدياته الأعمق، نتائج انتخابات المجلس الرابع التي قادت إلى صعود قوى اليمين وهزيمة اليسار بالكامل، إذ تبوأ أحد رموز اليمين الشيخ ناطق نوري رئاسة البرلمان الرابع والخامس (1992 - 2000م). كذلك انسحب رجل الدين اليساري عبد الكريم موسوي أردبيلي من قمة القضاء، ليترك موقعه إلى رمز يميني كبير هو محمد يزدي، وبذلك صارت رئاسات القوى الثلاث من حصة اليمين خالصة لهم من دون اليسار، وهو ما دفع اليسار إلى البدء بإعادة تقويم مساره وأفكاره.
 
المراجعة الفكرية
انكبّت قوى اليسار على مراجعة بناها الفكرية والنظرية لتكون أكثر انسجاماً وواقعية، وهي تتجاوب مع موقف الشارع، ومتطلبات مرحلة ما بعد الحرب، فتمخّض هذا المسار عن ولادة ما أُطلق عليه بـ"اليسار الجديد"، وقد مثّل إرهاصات "الحركة الإصلاحية" التي اكتسبت صيغتها بهذه التسمية رسمياً، مع الفوز الشعبي الساحق لمحمد خاتمي في رئاسيات عام 1997م، والهزيمة الماحقة لخطّ السلطة ومرشح اليمين التوافقي، الشيخ ناطق نوري.
انتهت اصطفافات أيديولوجية اليسار الجديد إلى قوى متعدّدة أبرزها ثلاث، هي: "مجمع روحانيون"؛ و"منظمة مجاهدي الثورة الإسلامية" بتأسيسها الثاني عبر أسماء لامعة، أمثال بهزاد نبوي ومحسن آرمين ومحمد سلامتي وسعيد حجاريان ومصطفى تاج زاده؛ والتنظيم الطلابي الجامعي العتيد "دفتر تحكيم وحدت".
تمحورت أفكار اليسار الجديد ومن بعده التيار الإصلاحي برمّته، حول مرتكزات ثلاثة، هي السلطة والاقتصاد والشعب. كان من نتائج المراجعة ابتعاد اليسار الجديد والحركة الإصلاحية تبعاً له، عن متبنّياته التقليدية السابقة، والتحوّل إلى قناعات جديدة، أبرزها تحديد صلاحيات الولي الفقيه بالدستور فقط، وأنَّ ولايته في عصر الغيبة انتخابية وليست تنصيبية، والتلميح بتحديد مدّة توليه المنصب بأجل محدود؛ وأنَّ جمهورية النظام مساوية لإسلاميته، ومن ثمّ ليس لأحد أن يخدش "الجمهورية" بحجة "الإسلامية"، ومن ثمّ فإنَّ مشاركة الناس في إدارة الحكم، هي "حق" لا "منّة وتشريف" ولا حتى "تكليف"؛ بل ذهب بعض رموز الإصلاحية، إلى أنَّ الولي الفقيه يمارس سلطته عبر مبدأ "الوكالة" فقهياً، بصفته طرفاً في عقد اجتماعي بينه وبين الشعب، وليس من خلال "الولاية" بالمعنى العقدي والشرعي؛ فتلك الولاية من مختصّات النبي صلى الله عليه وآله والأئمة المعصومين عليهم السلام.
اقتصادياً آمن اليسار الجديد بدور السوق والقطاع الخاص، لكن ضمن محور تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية، ومواجهة التفاوت الطبقي الفاحش، ما أبقى دوراً كبيراً للدولة في الاقتصاد، لكنه أقلّ مما كانت عليه قناعاته إبّان حكم مير حسين موسوي، وهيمنة اليسار التقليدي.
أما ثقافياً فإنَّ اليسار الجديد وإن فتح نافذة باتجاه التفاعل مع الثقافات الأُخر، إلا أنه بقي مركزاً على الأصالة الثقافية، وأهمية حماية المجتمع من المستورد؛ تحديداً حذّر من الغربنة الاجتماعية والتغريب الثقافي، واصطفّ إلى جوار المحذّرين من خطر الغزو الثقافي.
بالانتقال إلى السياسة الخارجية لم يرفع هذا التيار يده في البدء عن المقاومة ونصرة المسلمين والمستضعفين، لكن شهد مع بزوغ الحركة الإصلاحية تحوّلات كبرى، انتهت للتأكيد على إيران؛ وإيران وحدها، وتهدئة العلاقة مع الإقليم والعالم، ليلتقي في الأهداف نفسها مع اليمين الجديد؛ تحديداً خطّ هاشمي رفسنجاني وحزبه "كوادر البناء".
 
تيار الإصلاحية حاضراً
ينبغي أن ننتبه إلى أنَّ اليسار الجديد توحّد حدّ التطابق تقريباً مع تيار الإصلاحية الخاتمية، وصارا يتحركان بكيان فكري 
وحركي واحد. 
ثمّ التقى هذا الكيان في منتصف الطريق مع إصلاحية هاشمي رفسنجاني، ليكوّن الجميع تيار الإصلاحية الإيرانية، الذي يتألف الآن من قرابة (30) تنظيماً يقف على رأس الأمانة التنسيقية فيه، السياسي والمفكر المخضرم بهزاد نبوي.
يترتب على ذلك أنَّ الإصلاحية كتيار عام أُعلن عن ولادته رسمياً مع فوز محمد خاتمي، ابتلع اليسار الجديد، كما فعل الشيء نفسه مع إصلاحية رفسنجاني، وامتدّ لاستيعاب رمزيات كبيرة في طليعتها حلقة نياوران برئاسة حسن روحاني، وحسن الخميني، وعلي مطهري، وعلي لاريجاني، وهو في طور التنسيق مع رمزيات كبرى في جبهة المحافظين المعتدلين، على رأسهم ناطق نوري، وإلى حدّ ما محمد رضا باهونر وغيرهم؛ وبهذا تكون هذه الاتجاهات قد التقت تنظيمياً وفكرياً في اتجاه واحد، هو تيار الإصلاحية الإيرانية.
لكنَّ استيعاب تيار الإصلاحية الخاتمية لقوى اليسار الجديد، وهضمه لإصلاحية رفسنجاني واحتواءه لتياره، لم يحصل بفعل السلطة والشأنية وحدهما، بل اقترن بتحوّلات فكرية عميقة، أعادت بناء الإصلاحية وقناعاتها في السلطة والحكم والدين والمجتمع والاقتصاد، رأساً على عقب. 
هذه التحوّلات النظرية لم تحصل مرّة واحدة، بل عبر سيرورة وحركة تكاملية، بدأت محطاتها الكبرى مع جهود صحيفة "عصر ما"؛ وصحيفة "سلام"؛ وحلقة مجلة "كيهان فرهنگى" التي استحالت إلى حلقة مجلة "كيان"؛ وخطّ "مركز الدراسات الستراتيجية" الذي أسسه هاشمي رفسنجاني؛ وخطّ مجلة "آيين" التي تبنّاها محمد خاتمي؛ وثورة الصحافة التي انطلقت مع عطاء الله مهاجراني وزير الثقافة في حكومة خاتمي، وتضاعف فيها عدد النشرات من (550) إلى (1000)، وحجم المطبوعات اليومية من (1,5) مليون إلى (3) مليون؛ لتسجّل بأجمعها مرحلة من أبرز مراحل الإصلاحية الإيرانية، نأمل أن نعود لإضاءتها في مقال مستأنف إن شاء الله العزيز.