شعريَّة الاغتراب عند مظفر النواب

ثقافة 2022/06/14
...

 حسن الكعبي 
يشير مفهوم الاغتراب في حدود التصورات الفكريَّة إلى مستويات، وإلى أنماط عدة منه، لكن يظل جوهرها الأساس هو الاغتراب الديني، كما يرى فيورباخ الذي أعتبره بشكل عام وفي حدود تجلياته ومستوياته نابع من الاغتراب الديني، وعلى وفق هذا التصور أقام ماركس تصوراته عن هذا المفهوم، لكنه على خلاف فيورباخ الذي يرى أن الدين هو شكل من أشكال الوهم الذي يجب الاغتراب عنه والتحرر من مهيمناته عبر نقد الفلسفة له
 
فإنّ ماركس يرى أن الاغتراب الديني، ما هو إلا تعبير عن اغتراب عيني واقعي، ويقوم في ميدان الحياة الاقتصادية للإنسان. 
وقد رأى أنَّ الاغتراب الديني لا يكون إلا في نطاق الوعي. أما الاغتراب الاقتصادي فهو استلاب الحياة الواقعية، بمعنى أن الدين يتجسد ضمن مستويات اقتصادية ويظهر ضمن مستويات الصراع الطبقي بين البرجوازية والطبقة الكادحة في سياق استلاب الطبقة الأولى للثانية، وأن مجال الحرية للأخيرة لا يتم إلا في الاغتراب عنها والثورة عليها.
وانطلاقاً من المتبنيات الإيديولوجية والرؤية الثورية للشاعر الكبير الراحل مظفر النواب فإن منظوره للاغتراب الديني يتم ضمن مجال اقتصادي أي ضمن مجال ماركسي، يعلن خلاله ثنائية الانفصال أو الانتماء أو ما يعبر عنه بالاغتراب عن الدين، وفي الدين بوصفه وعي الاغتراب الذي تتجوهر ضمنه شعريّة التمرّد، تتجسّد هذه الرؤية ضمن رائعة وتريات ليلية، فتمظهرات هذا الاغتراب أو وعي الاغتراب يعبر عنها هذا المقطع (لا تلم الكافر/ في هذا الزمن الكافر/ فالجوع أبو الكفار/ مولاي!! أنا في صف الجوع الكافر/ ما دام الصف الآخر/ يسجد من ثقل الأوزار).
إنَّ مفهوم الكفر في هذه المدوّنة النوابيّة هو شكل من أشكال الاحتجاج على طبقة رأسمالية احتكارية تمثلها فئة الحكام الكسبة في تعبيره وفئة رجال الدين الكسبة، المسهمين ببلورة مفهوم الفقر ضمن مستوى طبقة الجياع عبر الاستحواذ والاحتكار الذي مكنته لهم حيازتهم للسلطة التاريخيّة أو الميتافيزيقيّة، ولذلك فإنّ هذا الكفر الذي يعلن عنه الشاعر لا يقترن بالمعنى الفقهي أو العقائدي للكفر والإلحاد، حتى وإن كان يصدر عن مفهوم التمرد الميتافيزيقي، بل هو بتعبير البير كامو نوع من التجديف والاحتجاج ضد التضمين القبحي لمنتجات السلطة ضمن ثنائية التاريخي والميتافيزي. 
ولذلك فإنَّ الكفر يحيل إلى معنى وعي الاغتراب (من خلال الوعي بالظروف المحيطة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً والعمل على محاولة فضح الواقع وتغييره وعدم اغترابه).
ومن هذا المنطلق فإنّه يعلن انتماءه المتماهي مع فئة الجياع والطبقة المدافعة عن المهمشين والمضطهدين عبر نماذج ثوريّة، وهو انتماء يعبر عن حالة من الاغتراب، لكنه اغتراب من أجل التغيير، والقيمة الجماليّة التي تفرض شاعريّة على هذا المفهوم وتضميناته التي تتجسّد عبر الرفض والتمرّد، ومن هذه النماذج الصحابي أبو ذر الذي يشكل ركيزة أساسيّة في غالبية مدوّنات النواب بوصفه رمزاً للمتمرّد الذي يعي حقه ويدافع عنه ضد نماذج الاستحواذ وأخرى يستلهمها من التاريخ مطابقة لمتبنايته الثورية ورؤيته الأخلاقية في التغيير، وهي تقف قبالة النماذج الزائفة التي اغترب عنها، والتي من خلالها عبر عن انتمائه الروحي للقيمة الجمالية، ضمن هذا المقطع: (وأرى تاريخ الشام ملياً/ وأكاد أقلب أوراق الكرسي الأموي/ وتخنقني ريح قرة/ تنفرط الكلمات/ وأشعر بالخوف وبالحسرة/ تختلط الريح بصوت صحابي/ يقرع باب معاوية/ وينادي بالثورة/ ويضيء الليل بسيف/ يوقد في المهجة جمرة/ أنا أنتمي للجموع التي رفعت قهرها هرماً/ أنا أنتمي للجياع وإلى من سوف يقاتل/ أنا أنتمي للمسيح المجدف فوق الصليب/.. وظل به أمل ويقاتل/ لمحمد شرط الدخول إلى مكة بالسلاح/ لعلي بغير شروط/ أنا أنتمي للفداء لرأس الحسين).
إنَّ الانتماء للقضايا الإنسانية الكبرى في شعر النواب بقدر ما هو تعبير عن موقف ايديولوجي رافض لاستلابات السلطة المستبدة مهما كانت تجلياتها، إلا أنه بالقدر ذاته هو موقف جمالي يفرض شاعريته على المفهوم، انطلاقاً من التضمين الجمالي لفعل الانتماء، طالما أن هذا الانتماء يعمل في مسار تحرير الوعي الإنساني الذي يكسب الفعل الثوري شاعريته.