هلوسات سايكوباثيَّة في الجنون والإبداع والموت

ثقافة 2022/06/14
...

 حميد المختار
 
الارتباط بالذات هو العلامة الأولى للجنون، وبسبب هذا الارتباط والتّلازم يَقبَل الفرد الخطأ كصواب والأكاذيب كحقائق والعنف والقبح كجمال وعدل.
«ميشيل فوكو»
 
إنَّ الأشخاص الأسوياء يقبَلون الحياة المعيشة ويتسالمون مع واقع الأمر ويرضخون للمقياس العقلاني، بينما المرضى العقليون يرفضون ذلك ويصرّون على أنْ يكونوا هُم المقياس، أما المبدعون فيشعرون الشعور نفسه إلّا أنّهم مرتبطون مع المجانين بطريقة ما، فكلٌّ من المبدع والمجنون غير راضٍ عن أشياء كثيرة في حياته، وكلٌّ منهما يستريح على وسادة لذة عبادة الذات، وكل منهما مُوْقن تماماً بأننا لا نساوي آلامه سواءً أمام أنفسنا أو أمامه، وهذا في الواقع ليس عبادة ذات بقدر ما هو اعتراف مطلق بشخصيتهم، وقد وضع "دوستويفسكي" إصبعه على موضع الجرح الذي شكّل جوهر المشكلة حين أوضح في روايته "الجريمة والعقاب" بأن "راسكولينكوف" يريد أن يكون قانوناً قائماً في ذاته، حتى وإنْ كان في حرية زائفة وانتهى بمصير مأساوي كرجل مجنون، أما "ميشيل فوكو" فيشعر بكثير من السرور ووضوح الفكر حيث يبحث في الجنون، لذلك فهو يميل تلقائياً للأدباء والفنانين، كما يشعر بشيء من الحنين إزاء احتجاجاتهم ضد هذا العالم الذي يريد أن يسيء إلى فهمه، ذلك أنَّ الإنسان الحديث قد امتنع عن فلسفة الجنون وجعل منه مرضا عقلياً، وقال إنّ الجنون مرض خطير، وأنشأ العيادات والمستشفيات والسجون، وهذا خطأ جسيم لأنه ناتج عن المنطق السائد في الغرب ذلك المنطق الذي نسي أنّ الجنون يمثل حالة عميقة وغامضة من حالات الإنسان.
هكذا أراد "فوكو" أنْ يبحث في الجنون حين تسوء العلاقة بين الإنسان والحقيقة، فالجنون لا يُمكن أنْ يَظْهر ولا يمكن أنْ نتكلم عنه إلا من الخارج، وقد تناول الجنون الكثير من الأدباء الذين دخلوا دهاليزه المظلمة منهم: "دنيس ديدرو، ماركيز دي ساد، إدغار آلان بو"، وقبلهم فولتير، وديفيد هيوم إلى نيتشة وانطوان آرتو وفان كوخ.
لذلك يقول فوكو: "هذه قوة الجنون، إنه هو الذي يُفصِح عن السر غير المفهوم في الإنسان، وهو أنّ نقطة سقوطه هي بعينها فجره الأول، وأنَّ ليلهُ ينتهي مع نَفْسِ أشعة الضوء التي طالعته في صغره وفيه تصبح النهاية بداية جديدة".
وهو ما يمهّد لي الدخول في الأنموذج الأساسي لهذه المقالة صديقي الذي مارس لعبة الجنون، ومن ثمّ الموت، هو ساردٌ دخل الأماكن ذاتها السجون والمصحّات العقلية والمقاهي، فضلاً عن أنه مارس فِعل الكتابة كخدعة جديدة تنتصر للجنون، يكتب عن ثيمات اجتماعية وواقعية من دون الاقتراب من حافة التجريب واللعب في اللغة، القصة عنده مَقْعد محجوز له، السكون فيه أجدى من الحركات السريعة المُتعِبة وغير المبررة، قضى وطراً كبيراً من حياته موظفاً، لذلك فهو اجتماعي بالدرجة الأولى وصاحب علاقات واسعة يحاول أنْ يبنيها على مركزيته الأدبية لا الوظيفية، ولكن بالنتيجة فقد الاثنتين معاً، ترك الوظيفة وهجر الكتابة ليخرج حافي القدمين إلى البرية الموحشة للبشر ومؤمناً إيماناً كبيراً بعمق فهمه للكون والعالم ولأدبه الذي بات لا يُبارى، في دخوله منطقة اللا عودة والخطر المحدّق، فقدْ دخل عالماً آخر تماماً؛ عالَم الجنون الذي ترك عالَم الأسوياء وأشكالِه السرية وارتبط بماهيته الذاتوية التي قادته من حَبْل جنونه إلى مصالحة تامة بين ضعفه وأحلامه وأوهامه ..
وما يدعوني إلى التركيز على هذه الحالة هو فرادة جنون المبدع وغرابة خيالاته، وهو يُمَنطق الأشياء وِفق ما يرتّبه له لا وعيه المنحرف عن جادة الصواب العقلي لعالَم الأسوياء..
لقد اكتشف صديقي السارد أنّ الرغبات المجنونة والجرائم الإنسانيّة والشهوات جميعها تكون قانوناً صارماً وعقلاً كبيراً لأنّ كل ذلك هو جزء من طبيعة البشر، إنه انتعاش الإرادات الحرة في وعي غائب عن حضور الآخرين، وغياب الآخر هو فرصة لطغيان الذات المقموعة لديهم، فتُزال بذلك جميع الكوابح الأخلاقية الموضوعة ضمن قيود المجتمع المتَّجِه إلى أَسْر ذاته داخل شرانق القوانين والدساتير التي خُلقت لكسر روح الإنسان ونفيه..
ها هو الآن مع النّزلاء الآخرين داخل ذلك القصر، منفلتون ومنتعشون مع ذواتهم حيث تتساوق تلك الذات مع ذاتها والآخر، وكلٌ مع طبيعته الخاصة في وِحدة واحدة تؤسس لذلك الاحتجاز الغريب..
إنّ صديقي هنا في علاقته مع أدبه يقدم لنا صورة النقيض الذي يرفض الاعتراف بمرضه ويصر على لباس العقلنة الاجتماعية، إنّه لا يفتح حواراً مع نفسه أبداً ولا يَحْدُث ذلك إلا في حالات جنونه فيُصبح الأبرياء قتلة والمتهمون قضاة ويصبح من بين اكتشافاته أنّ أقرب أصدقائه هو رجل مخابرات خطّط لعملية تصفية عقلية له، لذلك فهو يعمل على تثبيت أركان وعيه وجدرانه برصانة هشة معتقداً أنه سيبني ذاتاً أُخرى غير تلك التي تلوثت بلوثة الجنون والمغامرة، على الرغم من أنّه يحترم أدبه احترام الشخص المتعقِّل في مجتمع الأسوياء، ويقسو على ذاتِه بلباس خلق ولحية طليقة ووجه مشوّه بالكدمات، إنه انتقام كبير من الأنا والآخر وتهديم لهما معاً عبر خطة شيطانية، لذلك فهو يقدم كل تناقضاته على طبق مفتوح، لكنه يَأْبى أن تُمَس قصصه السوية المتزنة والمكتوبة بطريقة عاقلة جداً بلا جنون ذات أو هذيانات شبع منها في المصحة، لذلك فعليه أنْ يقدّم صورته الناصعة لمجتمعه الذي لا يَرحم والذي يَنظُر إليه بعين الشّك والشماتة. 
والخُلاصة أنه متقوقع في بؤرة أحلامه، تلك الأحلام التي صارت موضوعاً لعالَمِه أو عالَماً لموضوعاته بصورها ونسيجها وما تحتجزه من شعور وما تُعيد تركيبه وبناءه، حتى أنها صارت بمعنى آخر حركة الخيال المتجهة نحو اللحظة الأولى للوجود، كما ورد في رسالة لفوكو عن الجنون: "تلك اللحظة التي يتم فيها التكوين الأصلي للعالم لذلك ستجدها -أي الأحلام- دائماً في الروح الرومانسيَّة،إذ تتولّد الذات ويتولّد الموضوع والشخص".
وعليه فقد بَنى عالَماً كاملاً في أعماقه هو وكلُّ النّزلاء الذين شكّلوا معه لُحمة 
الوعي، إذ يجتمعون مندفعين إلى اللانهاية في مُمَكِّنات الشعور التي تدفعهم إلى الأعالي ليكونوا قضاة ومنقذين وقادة العَوالِم الجديدة في ابتكارات الحلم واليقظة والإبداع والجنون والموت.