المجد للعفن

ثقافة 2022/06/14
...

 صالح رحيم 
 
كنتُ، في السادسة من عمري، كبيراً جداً، عرفتُ مبكراً ازدراء الجيران لطفل وقح، وحرَكَي، أتذكّر الأحداث التي أسهمت ببناء جرحي الكبير، شخصيتي المطعونة بخناجرَ مسمومة، كنتُ دائماً أحسّ بأنني مختلفٌ عن الجميع، لم يخطر في رأسي أن هذا الشعور هو العفن المأساوي لطفولة مغطاة برطوبة اللامبالاة، لم أكن أغفو بشكل جدي، كان النوم نوعاً من الأغاني التي تستمع لها الجوارح بشكل قسري، أغاني عفنة بمعنىً أدقّ، السباحة في الشاطئ كانت شكلاً من أشكال العفن أيضاً، لأنّها بدأت في السواقي القذرة، هذه إذن فرصة للاحتفاء بالعفن، الذي كان لازمةً لحياتي، وليست سرداً لأحداث عادية مَرَّ بها كثيرون. بالعفن كبرتُ من دون فائدة، إذ لم يك من مختبر يحلل نوع العفن الذي كان يغلف رغيف الطفولة ذاك، إذن هو عفن مجهول، حسناً، هذا باعث آخر، يدعوني لأن أحتفي بكل أنواع العفن، لأنني أجهل نوعي الخاص!! 
من البديهيات، أن الخبز عندما يُترك مدة من الزمان، في درجة حرارة معينة، ستكسوه بقعة خضراءَ، تدعو للنفور، الخبز اليابس عندما يلامسه الماء أيضاً، بعد مدة وجيزة، سيصير أخضرَ كذلك، ما أريد استشفافه من البديهة هذه، هو أن درجة الحرارة والماء، مع أسباب أخرى، جعلت من الخبز عفناً، كذلك الطفولة، لا تصير عفنة إلّا بفعل الإهمال، وطفولة أي إنسان يحس بخلل في عمق هويته، هي طفولة كانت قد تعرضت لظروف العفن «والشخص المهمل هو أنقاض عائلته» أليس كذلك؟ أتذكر في رواية الجاسوس لمكسيم جوركي، التي تدور أحداثها حول شخصية منعزلة وكئيبة، تعيش مهملةً حتى النهاية، حتى لحظة الانتحار المرير، حول «يافسي» بطل الرواية اليتيم الذي مات أبوه في السابعة من عمره، وبعد سنتين تموت أمه، فيعيش في بيت عمه ويعاني ما يعانيه المخذولون المطرودون من أي شيء، يعاني يافسي من ضرب ابن عمه له، من معاداته حتى وهو يأكل، إلى درجة أنه صار يتلقى الضرب كما لو أنه واجب يومي، كلما صادفه ابن عمه، يضع يديه على رأسه ويجلس، لكي يشبع ضرباً، وبعد أن أكمل «يافسي» دراسته، اضطرّ عمّه إلى أخذه للمدينة، لكي يعمل فيكتسب مهنةً، عاشَ «يافسي»  في المدينة عاملاً في مكتبةٍ يديرها رجلٌ يعمل جاسوساً لدى القيصر، حتى اكتسب «يافسي» هذه المهنة وصار جاسوساً خبيراً تسبّب بهلاك الكثيرين، تُسلط الرواية الضوء على هذا الكائن المهمّش، وتكشف بسردٍ مذهلٍ وشفيف عن شخصية «يافسي» التي كوّنتها الظروف عكس ما يريد ويحلم، فقد كان يحب الغناء، ويحبّ الاستماع إلى القصص، وربما كان من أحلامه أن يكون مغنياً، إلّا أنَّ الظروف جعلتُ منه جاسوساً أودى بحياة الأبرياء، في النهاية ماتَ «يافسي»  بعد محاولتي انتحار، فشل في الأولى بعد أن تحطمت أضلاعه حينما أراد شنق نفسه على شجرة، وفي الثانية نجح بجلوسه على سكة القطار منتظراً موته الذي يتقدم ويتعالى صوته ببطء، تاركاً وراءه العالم الذي تجمعه الألفة عند الحريق، وتفرقه الكراهية والعنف عند الانطفاء، مات يافسي من دون أن يسأل عنه أو يعرفه أحد «فهوية الأموات تختفي بمجردِ موتهم» مات لكي «يعيش حياةً يذهب فيها إلى كلِّ مكانٍ ويرى كلَّ شيءٍ من  دون أن يراه أحد»! 
في الرواية إشارات مهمة يشترك بها كل الجواسيس في هذا العالم، أولاً كل الجواسيس في هذه الرواية يعملون من أجل المال والمستقبل، مع أنه عمل متعب ومؤرق، وثانياً الجواسيس أناس مثلنا، لولا ظروفهم المعيشية وتنشئتهم الاجتماعية لما صاروا بهذا الشكل. 
لاحظنا يافسي مثالاً، هذا الولد اليتيم، لولا أنه يتيم ما صار جاسوساً، ولولا أنه معوز ما أودى بحياة الناس الأبرياء، كل الأفعال التي نراها أفعالاً حقيرةً ودنيئة، يراها يافسي وغيره أفعالاً ضرورية للعيش، وهو يبدو على صواب لأنه يريد أن يعيش مثلما نريد أن نعيش نحن، حتى الإرهابي الذي يفتك ويقتل الناس، يبدو من جانب ما، بلا ذنب، ذنبه أنه جاء رغماً عن أنفه، وأنه بمعزل عن تنشئته الاجتماعية، لو لم يكن موجوداً لما صارَ جاسوساً أو ارهابياً، كل القتلة والمجرمين والطواغيت أبرياء لو تمعنا في تاريخ تنشئتهم الاجتماعية، ومن ثمّ كلنا مشاريع قتلة أو جواسيس أو منبوذين لو كانت لنا ظروف هؤلاء، حسناً هذه طفولة يافسي، بمجرد أن لامستها ظروف العفن غير المعروف أحالته إلى جاسوس، وغيره، كثيرون في هذا العالم، بعضهم تنتشله الكتابة أو الفن، وبعض تنقذه الصدفة، وبعض يضيع ولأننا نكتب، فلنمجد العفن، قولوا معي رجاءً بصوتٍ عالٍ وبلهجة حازمة: المجد للعفن !!!