فرانس.. تاييس والصاوي

ثقافة 2022/06/16
...

 منير عتيبة
ذهبت إلى «تاييس» بسبب أحمد الصاوي محمد (1902 - 1989)، ومن خلالها عرفت أناتول فرانس (1844 - 1924)، صاحب أشهر غانية تائبة في الأدب، والذي أثر بغانيته التائبة تلك في الأدب العربي، بل وفي السينما، تأثيرًا غير منكور. كنت طالبًا في المرحلة الجامعية، شغوفًا بعالم الصحافة، وبالسير الذاتية، فما بالك بقراءة سيرة أحد رواد وأعلام ورموز الصحافة المصرية. 
أحمد الصاوي محمد. بالإسكندرية شارع شهير اسمه «شارع النبي دانيال»، يقال إن تحته قبر الإسكندر الأكبر، كنت أذهب إلى هذا الشارع كثيرًا، لا لأبحث عن قبر الإسكندر، بل لأفتش في الكتب القديمة، التي تمتلئ بها أكشاك على جانبي الشارع، متخصّصة في بيع تلك الكتب، وجدت رواية «تاييس»، ترجمة أحمد الصاوي محمد، اسمه هو ما لفت نظري قبل اسم الرواية، وقبل اسم مؤلفها أناتول فرانس، وحتى قبل صورة الفتاة الجميلة المرسومة بالألوان على الغلاف، كانت الطبعة الأولى من سلسلة «كتب للجميع» التي مرّت عليها عقود، الورق شديد الاصفرار، جاف، أخشى أن تضغطه أصابعي بقوة فيتكسّر، أطراف بعض الصفحات أكلتها العثة، بعيدًا عن الكلمات من حسن الحظ، وصفحات أخرى بها ثقوب عديدة بين السطور، لكنني قرأت نصف الكتاب تقريبًا قبل أن أصل إلى المنزل، وبمجرد وصولي التهمت بقيته، ولم تغادرني تاييس بعدها.كثيرًا ما رأيت تاييس في نماذج نسائية مما أقرؤه في الروايات والقصص، ومما أشاهده في السينما، ورأيت أكثر «بافنوس»، ذلك الراهب الشيخ الذي ذهب ليهديها فَضَّلَ وسقط. رأيته في فيلم «أبي فوق الشجرة» المأخوذ عن رواية بالاسم نفسه لإحسان عبد القدوس، عماد حمدي الأب، يذهب إلى الغانية نادية لطفي التي أغوت ابنه عبد الحليم حافظ، فيقع في هوى غانية أخرى صديقة لها، ويكون على الابن أن ينقذ أباه. رأيت تاييس وبافنوس في رواية، وفيلم، الرباط المقدّس لتوفيق الحكيم، بطولة عماد حمدي وصباح (قرأت عن رسائل علمية ناقشت العلاقة بين الروايتين، في إطار الأدب المقارن، وأكدت تأثر الرباط المقدس بتاييس).. رأيت «بافنوس» في كل إنسان يحاول أن يهدي الآخرين بكلمات لم تؤثر في روحه هو فلا يؤثر فيهم، ويتنكب هو الطريق المستقيم، ورأيت «تانيس» في كلّ امرأة تبحث عن الطريق الفاضل، وتصمّم عليه مهما يكن الثمن الذي عليها أن تدفعه.وارتبط لديَّ أحمد الصاوي محمد وأناتول فرانس كل منهما بالآخر، فقد كان أحمد الصاوي محمد مولعًا باناتول فرانس، ترجم له أيضًا: أفروديت- سافو- الزنبقة الحمراء. وقد بدأ الاثنان، فرانس والصاوي، حياتيهما الأدبية بالصحافة، لكن صفة الصحفي التصقت أكثر بالصاوي الذي كان أول مصري يحصل على دبلوم الصحافة والخدمة الاجتماعية من السوربون التي ذهب إليها في منحة دراسية ساعدته في الحصول عليها هدى شعراوي لإعجابها بمقالاته في جريدة السياسة. وكان أول مصري يترأس تحرير جريدة الأهرام العريقة عام 1952 بعد إنشائها بخمسة وسبعين عامًا كان جميع رؤساء تحرير الأهرام خلالها من الشوام. وكما اشتهر أناتول فرانس ببساطة أسلوبه ووضوح تعبيره عن الفكرة، عُرف أيضًا أحمد الصاوي محمد بأنه نقل الكتابة الصحفية نقلة كبيرة نحو البساطة والتركيز والوضوح بعموده الشهير «ما قلَّ ودلّ» الذي تنقل معه من مؤسّسة صحفية لأخرى.لم تتح الأقدار للصاوي أن يلتقي فرانس الذي رحل عن عالمنا عام 1924 عن عمر يناهز الثمانين عامًا، إذ ذهب الصاوي إلى باريس بعد الوفاة بنحو أربع سنوات، وظل في باريس لمدة أربع سنوات حصل خلالها على دبلومة الصحافة وعمل مراسلًا لجريدة الأهرام، ثم عاد إلى مصر وأنشأ دار النشر الحديث التي أصدر من خلالها مجلتين لم تستمرا طويلًا لفخامتهما وتكلفتهما الماليَّة العالية، وهما «مجلتي» و»كليوباترا».حصل أناتول فرانس على جائزة نوبل عن مجمل أعماله عام 1921 «تقديرًا لترابط إنجازاته الرائعة من جهة الأدب بالجانب الإنساني النبيل والعطوف». وكان أكبر تكريم يحصل عليه أحمد الصاوي محمد من بلد أناتول فرانس وهو وسام جوقة الشرف برتبة فارس من فرنسا، وذلك «تقديرًا لمجهوده في دعم الروابط الثقافية بينها وبين مصر».ورغم شهرة أناتول فرانس وحصوله على جائزة نوبل إلا أن أدبه ظل محل خلاف كبير، فقد (ظلَّت غالبية أعماله مُدرَجة ضمن المؤلَّفات المحظورة بمكتبة الكنيسة الكاثوليكية الرومانية حتى عام 1966. 
وتعرضت كتاباته وأفكاره في تلك الفترة لهجمات شرسة عديدة، لا سيما من خصومه السياسيين ومعارضي مذهبه الاشتراكي، الأمر الذي تزامن مع وجود مُدافِعِين أقوياء عن إرث أناتول الفكريِّ والأدبيِّ، ومن أبرزهم الكاتب الإنجليزي جورج أورويل). ورغم شهرة أحمد الصاوي محمد أيضًا إلا أن القليلين جدًا يذكرونه الآن. أظن أننا نحتاج إلى إعادة قراءة لأناتول فرانس وإعادة اكتشاف لواحد من أهم مترجميه، بمناسبة مرور قرن على حصول فرانس جائزة نوبل للآداب عام 1921.