القراءة العربيَّة للعرض العراقي سيادة الهامش

ثقافة 2022/06/18
...

 د. سعد عزيز عبد الصاحب
 
ماتزال وحتى وقت قريب الصفة المائزة لعروض المسرح العراقي المعاصر المشاركة في المهرجانات العربيّة والدوليّة هي سيادة الخطاب بوصفه المنتج النهائي لتلاقح أفكار المؤلف الدرامي والمخرج والممثل والسينوغراف، والذي عكس ولفترات طويلة المشكلات العضوية الأساسية في جسد المجتمع العراقي وهي بالضرورة هموم وعلل إنسانيّة عامة قد تقع في الصين وكندا وفرنسا وغيرها من البلدان وما فواعل مؤلفينا الدراميين وما حصدوه من جوائز وثناءات مستمرة في المهرجانات من أمثال عادل كاظم ويوسف الصائغ وفلاح شاكر وخزعل الماجدي وعلي عبد النبي الزيدي ومثال غازي وغيرهم.. إلّا برهاناً ساطعاً على ما نسوق من قول ممّا حدا بالشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش وهو يشاهد مسرحية (سيدرا) تأليف خزعل الماجدي وإخراج الراحل فاضل خليل في إحدى دورات مهرجان قرطاج الدولي في تونس بالقول (إنّ المسرح العراقي بخطابه الفكري وشعريته الساحرة يتفوق على جميع مسارح الناطقين بالعربية) وهي كلمة تصدر من لدن عليم بفنون الأدب والشعر، وشهادة كبيرة تشهد برصانة مسرحناً نصّاً وعرضاً.. إلّا أننا في الفترة الأخيرة نلحظ أن هنالك ميلاً واضحاً من قبل المهرجانات العربية في ترشيح واستقدام عروض مسرحية عراقية تنتمي لهوامش المسرح وتخومه أعني عروض الكريوغراف والدراما دانس والفنون الإدائية الموازية لفن المسرح التي ينتفي فيها الحوار الدرامي واللغة المنطوقة والشخصيات والصراع الدرامي المعروف، وكأننا بلاد من كوكب آخر لا تتكلم العربية إنّما تحكي بلغة أخرى لغة خرساء إلّا ما تجود به لغة الجسد والإشارة من دلالات.. أي التلميح لا التصريح.. وأفسّر هذا الإقصاء المقصود للعروض العراقية التي تنتمي لشكل المسرح الحقيقي هو خوف ووجل وارتياب القيمين على تلك المهرجانات من اللجان الفاحصة والمقيمة للعروض من الخطاب القادم من بلاد ما بين النهرين بوصفه خطاباً مؤدلجاً بحسب زعمهم، ولكنّه في الحقيقة خطاب حر يستطيع عكس المشكلات والعلل الاجتماعية العضويّة الداخلية، وقضايا المنطقة بأسرها من منظور جمالي، وكذلك لأن هامش الحرية النسبي المتاح لدينا في العمل الفني والثقافي أكبر بكثير مما هو في بعض البلدان العربية الآخرى وربما أيضا لأن النص المحلي يحتوي شكلاً مشاكساً للنص التقليدي لتضمينه محمولات ناقدة لسلطات الدين والسياسة والأعراف البالية والخرافات، وهذا ما شهدناه في الفترة الأخيرة بنصوص علي عبد النبي الزيدي في مسرحية (يارب) وكريم شغيدل في مسرحية أحلام كارتون، ومسرحية (فجر اليوم السادس) لمثال غازي ومسرحية (فلانه) لهوشنك وزيري وما تركته من سجالات وحجاج متواصل على موائد الجلسات النقدية ما بعد العرض المسرحي أو اثناءه من ردود أفعال التلقي الحارة
والساخنة.
في الحقيقة كانت نصوصاً تجديدية مبتكرة على مستوى الشكل وفيها احتجاج ورفض كبير للوقائع  وفضحها أمام  الرأي العام على مستوى المضامين الدرامية وإدانة واسعة لقضايا الإرهاب والإقصاء السياسي والتهجير القسري وإقصاء المرأة وهنا يمكن أن نحدّد بلا مواربة أن الآخر يفكر في مخرجاتنا الفنيّة الإبداعيّة من منطلقات دوغمائيّة واحديّة ضيقة وليست جماليّة وإنسانيّة عامة فذهب لاستضافة واستقدام هوامش المسرح القصيَّة وليس مراكزها، والأمر المضمر الآخر تقديم صورة مواربة عن المسرح العراقي اليوم أمام جمهور العالم بوصفه مسرحا متراجعا من خلال ما يقدم من عروض جسدانيّة وأشكال كريوغرافية متأثرة بهوامش المسرح في الغرب الأوروبي  وأميركا وهم لا يعلمون بأنّ هذه البلدان المتقدمة قد استنفدت كل فنون وأشكال المسرح التقليدي وتلاوينه وأخذت تجرب ما شاء لها من التجريب هذه العروض في حقيقة الأمر، لا تخلو من جماليات وإبداعات فنيَّة لكنها في شكلها العام لا تعبّر عن الهوية الوطنية والقومية للأمة العراقية وفلكلورها وأساطيرها التي تنفتح على الأسئلة الكبرى معبّرة عنها باللغة والحوار والسرد والحكاية وفعل التدوين وأثره الذي لا يمحو نصوصا وعروضا بوصفها أطراسا عصيّة على المحو والتهميش من ذاكرة المتلقي المحلي والعربي تشي بفاعليتها وديناميكيتها واستشرافها العابر للزمكان وما تتكئ عليه من قيم فكريّة وجماليّة وفلسفيّة متقدمة تضع الصانع الدرامي العراقي بقضاياه الجوهريّة في مقدمة الركب المسرحي دائما وأبداً.