غرام ميتيا.. رصاصة واحدة تكفي

ثقافة 2022/06/18
...

 هدية حسين
إيفان بونين (1870 - 1959) كاتب وشاعر روسي، إنه خلطة من موهبة صقلتها وعمقتها التجارب الصعبة، وهو أول أديب روسي ينال جائزة نوبل، في العام 1933، عاصر حربين عالميتين، وثلاث ثورات، وعرف العوز والفقر كما عانى في أواخر عمره من المرض ومن الحنين الجارف إلى روسيا وهو في مهجره الفرنسي، وكتب في مذكراته (لكم أحسد أبانا نوح فقد كان من نصيبه أن يشهد حدوث طوفان واحد) ، له مجموعة قصص في الحب سبق أن تناولنا منها قصته (الدروب الظليلة) عن عاشقين افترقا لمدة ثلاثين عاماً.
 
وشاءت المصادفات أن يلتقيا، هي عرفته وهو لم يتعرف عليها إلّا بعد أن ذكّرته، وكان يظن بأنّها سامحته لأنّه هجرها من دون أسباب، وأن الحب يمحو الذنوب، إلّا أن تلك المقابلة أثبتت له أن كلّ شيء يتغير حتى الحب.. وعن الحب أيضاً بين يدينا قصة بعنوان (غرام ميتيا) ضمن كتاب حمل العنوان نفسه ويحتوي على أربع قصص أطولها غرام ميتيا، من سلسلة إبداعات عالميّة، صدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في دولة الكويت، ومن ترجمة شوكت يوسف.
بطل القصة شاب يدعى ميتيا، وقع في غرام طالبة فنون تدعى كاتيا، تعشق الفن لدرجة الهوس، تبدأ القصة من جولاتهما الغراميّة في بداية الربيع، كلّ شيء يضحك ويثير البهجة في نفس ميتيا، لكن شيئاً ما يتسلل الى قلبه لم يدركه، شيء يجعله خائفاً ربما سيغير من طقس الحب الذي يعيشه، من دون أن يعرف أن غيرته الزائدة عن الحدّ هي هذا الشيء، كان يعتقد بأن كاتيا لن تكون لغيره، لكن كثرة من يحيطون بها تجعلها أحياناً غير مباليَّة، إنّها مشغولة على الدوام، ليس بدروسها الفنيّة فقط وإنّما في الحفلات التي تقيمها أمّها وتدعو إليها كبار الشخصيات، لقد صارحته أكثر من مرّة بأنّها تحبّه، لكن حبها الأوّل هو الفن، فصار يكره هذا الفن الذي يأخذها منه، ويغار من جميع من يقترب منها، خصوصاً من أولئك الفنانين الذين يصفهم بالبوهيميين الذين لا يراعون التقاليد، لذلك كان يرافقها الى مسرح الفنون، والحفلات الموسيقية، والأمسيات الأدبية، كان مفتوناً بها وغارقاً في سحرها حدّ الوله، هل كان يدرك بأنّه مريض بهذا الحب؟ أبداً.
الحب المرضي، ونخصّ هنا العلاقات الرومانسيّة بين الرجل والمرأة، هو حب تملّك يتحول الى إدمان وتطرّف في المشاعر فتتحول حياة المحب الى جحيم وإلى إذلال للنفس، هذا ما أصبح عليه ميتيا، وكان يفسّر كل تصرف منها بأنّه إهمال له وأنها ربما تكون على علاقة بغيره، فراح يبحث عن ذلك الشخص الذي يمكن أن تكون كاتيا قد وقعت في غرامه، وأخيراً راودته الشكوك بمدير المسرح الذي دائماً وفي كل صيف يختار طالبة لتسافر معه من أجل البحث.
لم تستطع كاتيا أن تقنعه بأنّها تكن احتراماً لمديرها لا يرقى الى علاقة غراميَّة، إلّا أن الوساوس تسحقه، وصار يغذيّها بالمزيد من المبالغات حتى سيطرت عليه، خصوصاً بعد أن اختار المدير طالبته كاتيا لرحلاته، وميتيا عالق في حبها لا يمكنه الخلاص، فما هو الحل؟ وكيف يجعل من كاتيا امرأة تخصه وحده؟ عرض عليها الزواج إلّا أنّها رفضت، ليس فقط بسبب كونها ماتزال طالبة بل بسبب غيرته الزائدة عن الحدّ، هذا الأمر جعله للمرة الأولى يفكر بقتل كاتيا، وأصبحت الفكرة جامحة، لقد سقط في نفق أظلم من نفسه وعاش صراعاً لا حدود له، إلّا أنه في النهاية عندما تقابلا، عدل عن الفكرة حينما اقترحت عليه كاتيا أن يبتعدا عن بعض ويفكرا جدياً في علاقتهما فلعل الأمر ينجح وأنّها ستأتي لوداعه على أمل اللقاء في وقت ومكان معينين وأنها ستراسله، وفي حقيقة الأمر فإنّ كاتيا لم تعد تحتمل غيرته وفي الوقت نفسه لا تريد أن تجرحه، فجاء هذا الاقتراح وقتياً، وهكذا قرر ميتيا أن يسافر الى قريته.
يأخذنا بونين في رحلة ميتيا عبر طرق صعبة وهدوء تام بعيداً عن فوضى المدن، يستقل أولاً عربة توصله الى محطة القطار، تفي كاتيا بوعدها فتأتي لوداعه، يمر القطار بأراضٍ شاسعة وحقول غناء وغابات كثيفة وغيوم لا تبرح أمكنتها وغبش لذيذ وسكينة عميقة، وأخيراً يصل قريته ويحط بين أهله، أمه وأخواته، والعاملات في مزرعة العائلة ووكيل أعمال أمه الذي سيكون له دور في الترفيه الذي يوفره لميتيا، فهل تستطيع هذه الأجواء أن تخفف من جحيم ميتيا؟ كلا، لقد كان حضور كاتيا قوياً وطاغياً وأشد ضغطاً عليه، لم يغنه عنها كلّ ما وجده في القرية، لا الطبيعة الجميلة ولا أحاديث أمه وأخواته، لا القراءة التي يعشقها ولا النزهات التي يقوم بها ولا حتى زيارات المعارف تخفّف من نار قلبه، كان يكتب لها كل يوم تقريباً، يشكو وحدته ويعلق سعادته بها، ويذهب للبريد يومياً لعلّه يجد رسالة من كاتيا، لم تصله منها سوى رسالة واحدة من كلمتين تطمئنه فيها بأنها تحبه، لكن تلك الرسالة لم تشفِ مشاعره الملتهبة، وبدأ يشعر بالمرض حتى من دون مرض عضوي، خصوصاً بعد توقفها عن كتابة رسالة ليعرف فيها ماذا تفعل في غيابه، إلّا أنه لم يجعلها ترق لحاله حتى بعد أن ادّعى أنه طريح الفراش، فتملكه اليأس وقرّر أن ينتحر إن لم تصله رسالة منها في غضون أسبوع.
كان يخرج من بيت أمه هائماً يبحث عن سلوى فلم يزده ذلك إلّا حرقة، فقد كان يراها في الطرقات جميعها، وفي قبعة امرأة عابرة تذكره بأنّ هذه القبعة تشبه قبعة كاتيا، حاول وكيل أمه بعد أن عرف ما به، أن يفعل شيئاً، فصارحه أن الدواء يكمن في علاقة مع امرأة أخرى، حتى وإن كانت هذه العلاقة عابرة ومدفوعة الثمن، أقنعه بذلك وتدبّر الأمر مع امرأة جميلة تدعى أليونكا، لكن هذه الأخيرة لم تستطع أن تزيل من رأسه صورة كاتيا، لا مناص، لقد تحول الى رجل فائض على الحياة، وفي هذه الأثناء من مشاعره اليائسة وصلته رسالة من كاتيا تطلب فيها منه أن ينسى ما كان بينهما، وعليه أن يكف عن كتابة الرسائل، وإن حبها الوحيد هو الفن، هكذا اختارت الفن الرحب على علاقة مرضية ستقضي عليها في النهاية، فما كان من ميتيا إلّا أن ينفذ قراره المؤجل، فتح فمه وأفرغ فيه رصاصة.