على سفوح الهملايا.. أشجار ووجوه

ثقافة 2022/06/18
...

 سعيد الروضان
 
في الساعة الواحدة ظهراً، 19 مايو، توجهنا إلى سفح الهملايا، بقلوب يقدّها الشغف والفضول لمعرفة ما سيأتي، في طريقنا قابلنا الطفل الراعي (رياض باجا) هو وأخته، ثمّ سرنا بتمهّل إلى المعبد الهندوسي، فأدهشتنا شجرة (الجنار) الضخمة العالية، المعمّرة التي قد يصل عمرها إلى خمسمئة سنة فوثّقنا حضورها الآسر الأسطوري بصور عديدة، يقول (الكايد مبشر) هي ممنوعة على الحطابين على الرغم من أنّها تُنتج أفضل أنواع الخشب في العالم.. حاولت قياسها بقدمي فكانت خمس عشرة خطوة من خطواتي 
الطويلة!
 شربنا الماء النازل منذ الأزل من المرتفعات وهو ماء نقي غير ملوث. 
ثمّ أخذنا صوراً للخراف الجميلة ذات الذيول الطويلة، هبّ علينا نسيم بارد مثل ندى الفجر، نسيم كأنّه من أرض بكر لم تعرف الإنسان بعد، انتبهت لذكري بخطّ جميل تركتها إحدى الكشميريات اسمها (نادية ريخان طارق) وصلنا السفح وبدأنا بتوثيق تلك اللحظات بصور كثيرة في محاولة للامساك بتلك الدقائق الهائلة الفريدة، حيث الحياة تتمظهر في صور خلّابة. 
شعرت بشيء مغناطيسي يسحبني إلى الأسفل وقد تكرّر ذلك عدة مرات، هل هو الجاذبية أم أنّه مجرّد شعور بسبب ارتفاع المكان، ولكنه شعور على الرغم من سلبيته ظل جميلاً، لأنّه كان ضمن فضاء اللحظة الساحرة التي تسوّرنا في هذا المكان الذي يأسر ويسحر
المكين.
في طريق عودتنا، في الساعة الثالثة ظهراً، شاهدنا شابتين تحملان قدوراً جميلة فوق الرؤوس، فسألناهما عن الرجال، وهل هم في الخيم التي بدت تلوح من بعيد بيضاء ناصعة، فأجبن بالإيجاب، وقلت (للكايد مبشر) أن يسألهنّ هل يوافقن على التقاط الصور، فأجبن بالنفي وواصلن الطريق وكأنّهن لوحة لرسام من عصور آفلة.
 عند باب الخيمة علا صوت مبشر: هل يوجد رجال؟ 
كان الجواب بالإيجاب، استقبلونا بالترحاب وكأنّهم يعرفوننا وفسحوا المجال لنا، جلسنا على فرش نظيفة، سألت الشخص الذي استقبلنا عن اسمه وكان بسمرة قاتمة وملامح أليفة، أجاب: اسمه (تجمل حسن كوتا) وعمره 38 عاماً، متزوج وأب لطفلين.
 وأما من جلس جانبي فهو ابن عمه (طارق أحمد باغوان) وعمره 38عاماً، متزوج وهو أب لطفلين أيضاً، والثالث (غلام قادو) لم يتزوج بعد.
هم رحالة يرعون الأغنام والماعز، يأتون دائما إلى سفوح الهملايا التي يطلقون عليها اسما خاصا "دوغ"، وقالوا إنّهم اعتادوا المشي على أقدامهم من قرية راجوري مع حيواناتهم وكلابهم التي تبعد 25 كيلومترا.
كانت الخيمة خالية من الأثاث سوى بعض ما يفرش على الأرض وبعض الوسائد، أما المطبخ فإنّه بدائي يعود إلى العصور الغابرة لا شيء فيه غير موقدٍ وبعض الأواني البسيطة.
صنعت سيدة البيت الفرن الخاص بها من الطين الأحمر، وكانت آثار أصابعها ما تزال واضحة على حوافه، وضعت العيدان الخشبية الجافة في الفتحة الأمامية وأوقدت النار التي سرعان ما استعرت تحت أبريق الشاي، راحت عيون السيدة تراقب المشهد بفضول كبير، فالضيفان مهمان ومسلمان، أحدهما يقول إنّه من بغداد والثاني من كشمير.
يقول (تجمل حسن كوتا) إنّهم: يأتون إلى الجبل لرعي خرافهم وماعزهم، وهم يتسلّقون الجبل كل يوم تقريباً لجلب الحطب، ويواجهون مخاطر مواجهة الدببة التي لا يمتلكون سلاحاً لردعها غير أصواتهم العالية لأنّ الأسلحة محرّمة في عموم بلاد الهند..
 وقد سألتهم كيف يقضون يومهم؟
فأجاب بنبرة واثقة وبهدوء: أننا نقضي أيامنا مع الخراف والماعز، وفي هذه اللحظة وصلت صينية الشاي التي كانت أنيقة مرصّعة بكرستلات لامعة، وكأنّها لا تنتمي أبداً إلى هذ المكان البدائي الموحش، وربّما هي تخرج إلى الهواء الطلق لأوّل مرة!
طلبتُ من أصحاب الخيمة أن يتجمعوا إلى جانبي، جلس (تجمل حسن كوتا) إلى يميني وجلس (طارق أحمد باغوان) إلى يساري، كلمني طارق وهو يشير إلى ظهره، ترجم مبشر قائلا إنّه يريد دواءً، فقلت بأسف له: لست طبيباً ولكنني سأعطيه بعض المال لمعالجة ظهره. 
سادت أجواء من الفرح المكتوم، وفي هذه الأثناء رجعت طفلتهم من المدرسة، توجهت إلى المطبخ لتنزوي مع أمها، راح الجميع ينادون عليها وهي تمانع، وأخيرا قدمت وجلست أمامنا، صورتها بأكثر من لقطة وسألتها عن اسمها فقالت (صايمة) كانت عيونها تبرق بالذكاء، سألتها عن المرحلة التي وصلتها في الدراسة، فقالت بخجل محبّب إنها في الصف الخامس الابتدائي وهي تحبّ المدرسة وتعرف شيئاً من الإنكليزية. 
وأما كيف تذهب وتعود إلى المدرسة كل يوم فكان جوابها بلغة الجسد إذ أشارت إلى قدميها.
سألت الرجال متى يسود الفرح في خيامكم؟، فأجمعوا في أيام الأعياد، حيث يجلبون اللحم والدجاج والرز، ويرتدون ملابس جديدة ويعطون لأطفالهم النقود.. ودعناهم بمحبّة ووضعت بخفّة في يد (طارق أحمد باغوان) مبلغاً محترماً من المال ليساعده في علاج ظهره.