تجوالٌ في ممرات السرد

ثقافة 2022/06/20
...

 حميد المختار
كتبت في مفكرتي ذات يوم: أنني أنقذت شاباً من موت محقق، كان عليه أن يقاد إلى المحجر ومن ثم يساق إلى غرفة الإعدام، ثم صرت أراه كثيراً في أحلامي، وحينما شاهدته ذات يوم وحيداً في الساحة الجانبيَّة للردهة أخبرته بذلك فقال: «الحلم الذي رأيته ما هو إلا جزء من ماضيك، إنه ذاكرتك المفقودة تعود إليك، وحين تصبح قادراً بشكل كاف على تأملها يمكنك بعد ذلك أن تكتبها، فالأشياء التي شاهدتها هي أسرار يا صديقي».
 
عُدْت ثانيةً إلى مفكّرتي وكتبتُ عن تاريخ حياتي وعلاقتي بشاب مجهول شاركت في إنقاذه من الموت، الشاب صار يتابعني كظلي، صار هاجسي في الكتابة والتأمل والخيال والتجوال ليلاً في ممرات السجن الطويلة، التجوال الليلي يتحول إلى لذة الغواية المبهمة، والمغامرة في الخروج من رتابة وسكونية الحياة، ليس في السجن فقط وإنما خارج أسواره أيضاً إنه كما يسميه (أمبرتو إيكو) - تجوالٌ في العوالم السرديَّة- ذلك هو بالضبط ما كنت أمارسه للتخلص من ضلالات الواقع ومشاكسات الجسد، إنه سحر الغواية في الكتابة السردية والهروب من سجن الورق المقفل على منابت الأصابع، في نظرياته النقديَّة يمارس (أمبرتو إيكو) اللعبة ذاتها عبْر عوالم مُمكنة يتم من خلالها ولوج الغابة والتجوال داخلها ثم الخروج والهروب من مسالكها الضيقة، وأنا حين أخرج إلى الممرات المظلمة متجوّلاً في غاباتي الداخلية أرى أنا أيضاً كيف يتشكّل الزمن وينتشر في كل الاتجاهات ليضلّل السارد الداخلي ويغلق عليه منافذ الليل والنهار، ذلك هو ما ينبغي من خلاله معرفة كيفيَّة ولوج النص السردي لعوالمه الممكنة، ليس لإيكو فقط أو لي كسارد سجين وإنما أيضا لنا نحن كصنّاع في محترِفات المُتون التي تَسْتَمْكِن العالم وتحقق ذواتنا من خلال عملية تكوّن الروابط الطبيعية بين عالم نعرفه ونحس بداخله بالضيق والقسوة وبين عوالم خيالية متغيرة تمنحنا اللّذة والراحة النفسية والصفاء الذهني، ذلك أيضاً ما كنت أكتبه حول أهمية السّرد وقدرته على تحويل عوالم الخيال إلى حقائق صادقة وملموسة، هذا كله حدّد لي طبيعة علاقتي مع ذلك الشاب الغامض الذي ظل مُهدّداً بالسّوَق إلى غرفة الإعدام، قال لي ذات مرة: “اسمعْ الجميع يبدأ حياته من مكان ما وقريباً ستكون لك حياة أيضاً وهي حياة قوية وأكثر أبدية وخلوداً» ..
أراد بذلك أنْ يَقلِبَ نظام حياتي رأساً على عقب، قلت في نفسي: “لو أنني تركته يموت في غرفة الإعدام أَما كان ذلك أَجدى وأكثر معقوليَّة لحل مشاكلي
معه”.
كانت صفحات المفكرة تمتلئ بشكل سريع وثمة العديد من الشخصيات بدأت بالتَّشكّل والتَّكوّن داخل المُتون السرديَّة، وعلى الرغم مِنْ أنني لا أريد الإسراع في ملء
الصفحات لكنني تذكّرت قولاً لـ (إيتالو كالفينو) يمتدح فيه السُّرعة ويقول: “لا أريد من وراء ذلك القول بأنّ السرعة 
تُعَد قيمة في حد ذاتها، فقد يكون زمن المحكي هو الآخر عاملاً
من عوامل البطء أو قد يكون دوريَّاً أو جامداً، حقاً أنّ المديح الذي نكيله للسرعة لا ينفي وجود متعة ناتجة عن
التهدئة}.
ثم وَجَدْت جملة كتَبْتها في المفكرة تقول: كيف يمكننا فصل الحقيقة عن الخيال؟، وكيف نكتب تاريخنا؟ 
وكيف نفهم أنفسنا؟ 
وكيف نُحَقّق في أعوام بل قرون من التزوير التاريخي لنصل للحقيقة الأصلية؛ الحقيقة الضائعة؟!، كيف سنجد كل ذلك الزمن الطويل في وقت سردي قصير جدا؟! ..
تذكرت بعدها جملة الشاب الغامض التي كان يواجهني بها قبل أنْ يختفي نهائياً: “أنت كنت دائماً تستعمل الأكاذيب لتقول الحقيقة! “ هل أجيبه بقول زملائي الشعراء العتاة عن الأكذب والأصدق في الشعر وأقول: أعذب السرد أكذبه، وهل أقول أيضاً أنه يوجد وجه للحقيقة في أقنعة السرد ولكنه بالتأكيد ليس وجهي أنا -السارد السجين- لأنني لدي الوجه الذي يقع في داخلكم جميعاً، لذلك فالأحداث والثيمات والعوالم الداخلية كلها تدور داخل رأسي، أتخيل الآن المسافة الزمنية الفاصلة بيني وبين الغُبار المحيط بي؛ غُبار الخَلْق الأول، غُبار المدن القديمة والسجون الكبيرة، غُبار المعارك والحروب وهي تدور تحت سَنابك الجياد المنتحرة، غُبار الآبار العميقة والشوارع المُوْحلة، غُبار مشاكَسات الطفولة في ليالي البرد والخوف، غُبارنا الذي شكّل عباءة كونية أوسع من السماء، إنه غُبار قيامَتنا الآتية، سأتحوّل مع الوقت إلى كائن هُلامي ذي جناحين، ربما لملاكٍ أو لشيطان أو لأي شيء آخر بعد أنْ تنتهي حياتي على هذه الأرض، أمّا حين أكتب وحين أمسك بالقلم أمام غابات السرد المشعّة الممتدة داخل روحي، فإنّ الأمر مختلف تماماً لأنّه يعني أنّني أبتدئ الحياة من
جديد.