ذهبَ النورس .. وبقي الساحر      

الرياضة 2022/06/20
...

علي رياح
 
كانت مساحة التفاؤل والارتياح – في مثل هذا اليوم قبل سنتين - تتضاءل وتنسحب تماما، تاركة غيمة ثقيلة من الهلع تملأ الأفق.
تلاشت كل محاولة للوصول إليه حيث يرقد في مستشفى النعمان، بعد أن كنا نبلغ في الأيام التي مضت موضعا قريبا يمكنه أن يومئ لنا من خلاله بإشارة تطمين يرسلها وهو يلتقط أنفاسه بالكاد.. كان يتمسك بأمل قد يتسع، وكنا نبتلع خشيتنا فنرسم له ابتساماتنا في محاولة لرفع الهمّة لديه.
واضح تماما في مثل هذا التوقيت من مساء السبت الموافق للعشرين من حزيران 2020، أن أحمد راضي قد خسر آخر محاولاته للخروج من الجو الكئيب الذي يحيط به في الردهة المُسيّجة بجدران شفافة منسدلة من النايلون السميك تتيح لنا وله تبادل النظرات، لكنها تحول بينه وبين تحقيق أقصى ما ينشده وهو الذهاب بالطائر الميمون إلى العاصمة الأردنية حيث في إمكانه لقاء عائلته، وليكن بعدها ما يكون.
كان (النورس) في الأيام التي مضت يحمّل زائريه هذه الأمنية كي يرفعوا صوتهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لعل مسؤولا في هذه الدولة العتيدة يلتفت إلى أمنيته وهو الذي لم يكن يوما يشحّ بعطائه على الوطن، ولكن دعواتنا المتتالية التي استحالت صرخات تملأ الأرجاء كانت ترتد إلينا، فلا متفاعل ولا مجيب.. وفي الليلة التي سبقت الرحيل كانت المناشدات تذبل، أما الأصوات فقد دبّ فيها اليأس وصارت متعبة متهالكة مثل صرير أبواب صدئة.
ثم جاء صباح الأحد ليحمل الخبر الحزين.. بعض الأصوات التي جاءتني عبر المحمول لا تحمل التحية ولا لزوميات السلام.. كانت تحمل سؤال الوجع الوحيد: هل الخبر صحيح يا علي؟ هل مات أحمد راضي؟. مات أحمد راضي وسط صمت من يعنيه ومن لا يهمه الأمر.. عند بوابة مستشفى النعمان حيث كانت الإجراءات شديدة التقييد في ذروة تفشي جائحة كورونا، لم تكن الرسالة في المشهد مُشفـّرة بالنسبة لي.. كانت واضحة: يموت المبدع العراقي مهملا ولا يجري تكريمه إلا حين يصبح من سكنة القبور. بعد أن حملت القلة القليلة من محبي أحمد راضي جثمانه، بشجاعة نادرة، بل شجاعة لا توصف وسط كل الاحترازات والتخوفات من عدوى تفضي إلى مصير مماثل، تحركت ماكينة الرعاية والاهتمام والتكريم للنجم الكبير.. رأينا مسؤولين اختفوا خلال أيام المناشدة بتسفيره إلى عائلته كأدنى قدر من الاهتمام، وقد دبّجوا المرثيات والقصائد التي تتباكى على أحمد راضي.
أجزم بأن أحمد راضي في حياته كان يدرك أن هذا السباق المحموم العجيب في تعداد مناقبه سيجري في مماته.. كان يدرك أن نجوميته الجارفة تثير عليه الحسد بل الأحقاد ولو من طرف خفي.. لكنه كان يحتفظ بابتسامة هادئة وديعة راضية تبوح بمعرفة طباع البشر وعقوق الأصدقاء وسط تكالب المصالح وتدافع النوايا في هذه الدنيا.