رواية (خبز على طاولة الخال ميلاد) لمحمد النعاس.. فهم مغاير للجندر

ثقافة 2022/06/20
...

 دعد ديب
هل تنقلب نواميس الكون إذا تغيّرت الرؤية الاجتماعيّة للمفاهيم السائدة لكل من الرجولة والأنوثة، ماذا إذا تبادلا الأدوار؟ ما الذي يحدث إذا رأينا الصورة السلب «نيجاتيف» للواقع المتعارف عليه؟ أعتقد ما من شيء أصعب من أن تغير شيئا من أعراف وتقاليد توارثتها المجتمعات جيلا إثر جيل.
 
 من هنا كانت الجرأة الكبيرة في تناول الليبي محمد النعاس بروايته التي فازت بجائزة البوكر العربية لعام 2022 «خبز على طاولة الخال ميلاد» في التطرق لمعنى ثابت وسائد وراسخ بعمق في الوعي النفسي والاجتماعي لأغلب قاطني منطقتنا العربية بالنسبة لتقسيم العمل بين كل من الرجل والمرأة ضمن الأسرة الشرقيَّة في واقعه الراهن. 
بأسلوب الراوي العليم يروي البطل قصته لشخص ما، ويباغتنا بدخول شخصيات لا نتعرّف عليها إلّا في نهاية العمل (المدام والسينمائي) لنعود ونربطها بما تم استهلاله، ورغم ابتعاده عن التقنيات الحديثة فقد تميز أسلوبه بالبساطة والسلاسة بالحكاية التي يسرد من خلالها مقتطفات حياته وتفاصيل يومه فلم نتوقع ونعرف النهاية المروعة لزوجته إلا قبيل النهاية، على الرغم من أنه بدأ سرده من الخاتمة بتقنية الفلاش باك ومشابهته بين النوم والموت للنتيجة التي آلت إليه الحكاية عندما يقول (النوم مثل الموت) في إشارته أن زوجته نائمة وهي ميتة في الواقع.
بساطة الأسلوب السردي لم تتعارض مع عمق الفكرة وتداخل السرد ليعرض حياة البطل في مختلف مراحلها متنقلًا بالزمن وفق أهمية الصور التي يرسمها له، ذلك البطل الذي تربى في المخبز ونقل لنا طبيعة علاقته بالخبز وعملية تخميره وخبزه وإحساسه به وكأنّه كائن يحيا عبر تنفس البخار فيه، وأشعرنا وكأنّه كائن حي ينضج عبر تفاعل أحاسيس عشقيَّة في عملية صنع الخبز، إذ تظهر حالة الطهو كعملية حياة نعيد تمثلها عند التناول، أو ليس الغذاء الذي يدخل أجسادنا يعيد دورة الحياة كذلك، الأمر الذي انعكس على بنيانه السيكولوجي وتركيبته النفسيَّة اللينة مما جعل للمهام المنزليَّة من طبخ وترتيب وتوظيب وغسل وكنس والاهتمام بالنظافة وقعًا طبيعيًا في ذاته، فالشغف بالطبخ لطالما ارتبطت بأنسنة الكائن ومدنيته عندما اكتشف الإنسان النار وتحول من الأكل النيئ والتقاط الغذاء من الطبيعة إلى طهو اللحوم والخضار، هذه السيرة تجعله يفشل في نمط حياته الذي يتطلب منه بأن يكون رجلًا بالمعنى السائد مما يدفعه لأن يدير ظهره للمجتمع للقبول والانسجام بما تمليه عليه طبيعته الأولية التي فطر عليها، ولكن إلى أي حد يستطيع تجاهل قوانين وأعراف المجتمع من حوله، وهو في ذلك معاكس لطبيعة زوجته المتعلمة التي رضيت باقترانها به لما يمنحها هذا الارتباط من هامش الحركة والحرية لامرأة مثقفة في مجتمع مغلق.
قاموس العبارات المسكوكة الذي اتسع وتصدر أغلب الفصول كناية عن الهدف الذي يراد تفكيكه، أي ما ورد من الأمثال الشعبية الدارجة والمحلية ومدلولاتها الموازية التي يكثف فيه الفكرة الموضوع والدالة على حجم الموروث السائد من الأعراف والتقاليد يبرز فيها انتقادات المجتمع على نمط حياته ومدى انعكاس قوة تأثيرها وطغيانها على الأفكار والسلوك  على غرار  (الفرس على راكبها)، (اضرب القطوسة تتربى العروسة)، (الراجل ما يعيبه شي)، ( تعيش يوم ديك ولا عشرة دجاجة)، (عيلة وخالها ميلاد) وهذه العبارة الأخيرة التي تصطاد معنيين يراد منه النيل من المرأة وولي أمرها معًا سواء أكان أباً أم زوجاً، ورفض المرأة والرجل اللذين يخرجان عن المكرّس من التقاليد والنظم الأخلاقيَّة المتعارف عليها، في إدانة تلك اللوحة التي تظهر نساء خارج سلطة المجتمع وتوصم الرجل المسؤول عنها بالضعة والهوان وفقدانه لرجولته فهو يبرز حالات من التمرّد وردود الأفعال عليها، فمثلًا عندما تطرد أخته صالحة عمه وتصرخ في وجهه محذرة إياه عن التدخل في شؤونها يقابله صوت المجتمع «مهما كان يجب على الأنثى ألا ترفع صوتها أمام الرجل»، كما لا ينسى الإضاءة على نمط من القناعات مثل الإيمان بالسحر والخرافات والأجساد التي يسكنها الجان، عرض أنموذجها البنت المنتحرة والتي خرجت عارية إلى الشارع نتيجة حالة نفسية لم يستوعبها المجتمع المحيط بها، فالكاتب من خلال لعبته السرديَّة يضيء على الأنساق الثقافيَّة السائدة وفي المجتمع ويقذفها مجددًا في وجه القارئ ليعاود التفكير في آليات نشوئها ومدى توافقها مع حاضر العصر.يأتي العنوان كعتبة نصيَّة أولى، فالخبز يوحي بالألفة والحميميَّة كبوابة للدخول إلى عالم الرواية وقد أخذ اسم بطله من مثل متعارف عليه في منطقته «عيلة وخالها ميلاد» ليكتمل المعنى في ازدواجه لمفهومي الطراوة واللين من جهة ومخالفة الفهم السائد لمفهوم الرجولة من جهة ثانية، فالجديد في عمل النعاس جاء على صعيد الفكرة المروجة لنمط جديد من التفكير وقد يلقى الكثير من الاستهجان ولكنه يلقي حجرًا في المياه الراكدة، كما ينتقل بهدوء للتشكيك بما تم تلقيه بالمؤسسات الرسميَّة عندما يقول: «وقبل أن يمتطي الأخ القائد جواده ليحرر البلاد من العملاء والخونة والقواعد الأجنبيَّة، كما علّمونا في المدرسة» حيث مراوغة عبارة عهد القائد يعكس الخوف المبطّن من أي كلمة قد تشي برأي مضاد لمرحلة من الاستبداد السياسي.
تحضر الشخصية اليهوديَّة في أغلب الأعمال الأدبيَّة العربيَّة الصادرة هذه الأيام مما يوحي بمساحة من المرونة في قبول الآخر وفهمه ويطرح المسألة صاحب البوكر لعام 2022 كما يشعر بها أي مواطن عربي يحتك بيهودي ما، فعلى الرغم من الاستقبال الحار الذي استقبله صاحب النزل اليهودي وابنته والوقت الجميل الذي أمضاه بضيافته، ولكنه شعر وكأنّه يخون القضية الفلسطينية عند جلوسه إليه، فتجسيده لصورة اليهودي ابن المنطقة تصوير طبيعي لناس ينتمون إلى المكان الذي ولدوا وعاشوا به وهذا لا يغير شيئًا من أن الصهيونية جاءت لتؤرخ لشرخ اجتماعي عبر تمييز ديني يعطي لوجودها تبريرا على أرض الآخرين واستلابها لحقوقهم.على الرغم من كثرة من يتحدث عن المساواة بين الجنسين، والشراكة في مؤسسة الزواج من حيث المهام والإنفاق والحقوق والواجبات إلا أنه في الغالب ينطبق عليه تعارضه مع الواقع الذي يعيشه مما يبقي أسئلة الرواية مشرعة وأهمها هل قناعة الرجل بالمساواة بين الرجل والمرأة تهدد رجولته وهل العمل المنزلي يسيء إلى ذكوريته؟ ربما هي تهدد سلطته الناتجة عن هذه الهيمنة ومكاسبه لذلك يتشدد في الحفاظ عليها ورفض كل ما يخالفها وأبسط اتّهام هو النيل من أخلاق المرأة المخالفة وإسقاطها اجتماعيًّا، وكذلك الرجل يتم وصمه بالعنة وقلة الشرف ضمن مفهوم الرجولة السائد، رغم أن هذا الرجل قد يختلس حقوق بنات أخيه كالعم مثلًا في النص ولا يتأثر شرفه بذلك، والكثير من النماذج تغلف المصلحة والمادة بالغيرة على الشرف والأخلاق، وقد جسّدها الكاتب بشخصية الزوجة زينب فهي على الرغم أنّها لم تضبط متلبسة بفعل الخيانة  وهي تعمل على هدف مشروع من تقرّبها بالمدير إذ كانت تطمح أن يساعدها بنشر لوحات عمها الفنان المتوفى وإحياء أعماله، ولكن دلالات المشهد العام والضغط الاجتماعي لم يعد زوجها ذو البنية الرقيقة بقادر على تحمله، فميلاد هو الشخصية في ترددها وتلعثمها تحاول أن تكون ذاتها رغم تعارضها مع المقاييس السائدة لمفهوم الرجولة لأنّها صوت المجتمع والعرف السائد الذي يطغى ليقول لنا بكل القسوة المبطنة لفعل القتل بأنه لا خصوصيَّة للفرد وربما كانت دعوة للأفراد كي يسهموا بتغيير هذا الواقع حتى لا يعيش أفراده ذلك الشرخ النفسي الحاد بين فطرتهم الطبيعيَّة وقواعد المجتمع القاسية.فالهوية الجندرية حسب الكاتبة إيمان حميدان موضوع جديد على السرد العربي، فهل يقود ذلك إلى محاولة أوسع لفهم ميول الآخر خارج ثنائية الأنثى والذكر عبر انتصارها للفرد بالطبيعة التي يرتاح ويخلق فيها في رصد ازدواجية المجتمع بين وجود ظاهرة ما والتكتم
عليها.