نازك الملائكة.. ورقة العاطفة وعمق الشعور

ثقافة 2022/06/22
...

 علوان السلمان
 
ظهور نازك الملائكة الشعري بعد انتهاء الحرب العالميّة الثانية وما تركته من آثار عليها وجيلها الذي عاش حياة قلقة مملوءة بالاضطرابات النفسيّة والروحيّة كما أحسوا بالحربين الأولى والثانية فكانت الأحداث تعمل عملها في أرواحهم وحسهم.. إنّهم جيل القلق والضياع، فضلاً عن حلول ثقافات متباينة ونظم اقتصاديّة واجتماعيّة متناقضة وجدت في نفوسهم أثرها.. لذا ظهر في شعرها ظمأ روحي عميق وحرمان نفسي يعصر وجدانها فأعادت النظر في المحاولات التجديديّة التي سبقتها.. فحاولت مع السيّاب التجديد في مضمون الشعر العربي وساروا في الشكل العام للقصيدة على طريق الأدب المهجري. 
- نازك الأصيلة في ثقافتها العربية واستيعابها بادراك واعٍ للأدب العربي مع ثقافتها الأوروبيّة وهذا يعني جمعها بين ثقافتين مما انعكس على أسلوبها جزالة ورصانة وعلى شعرها وعيا ناضجا.. وبذلك رسمت لنفسها خطا متميزاً واضحاً ميزها عن غيرها من رواد التجديد وفي مقدمتهم بدر شاكر السيَّاب.. فحافظت على أساليب العربية في شعرها، إذ كانت قريبة من عمود الشعر واعية ما تريد، محافظة على الحدود والقواعد، مع تحررها من نظام الشطرين والقافية الموحدة واعتماده التفعيلة الصافية من دون الاخلال بالوزن أو الموسيقى مع وصف لمعاناة النفس التي تضطرم فيها أسرارها وتغلي نوازعها:
                  لا تسلني عن سر أدمعي الحرى
                  فبعض الأسرار يأبى الوضوحا
                  بعضها يؤثر الحياة وراء الحس لغزا 
                  وإن يكن مجروحا..
- لقد استحقت نازك لقب شاعرة لحملها مقومات هذه الصفة، كونها قادرة على تأدية واجبها الشعري بقدرة الشاعرة الأصيلة المعاصرة.. فهي في الوقت الذي تتمثل القصيدة العمودية بكل ما فيها من قوة وأصالة فإنها لا تنسى أن توظف كل هذه القدرات في شعرها لقضايا وأهداف معاصرة عاشها وما زال يعيشها الإنسان العربي واقعاً ووجداناً.. فيبدو في قصائدها تمكن من استخدام اللغة وتطويعها في القصيدة لما تعبر عنه من أحاسيس وأفكار، لذا كانت عباراتها الشعريّة سلسة وغير مستعارة، متماسكة في بنائها، يتحاور فيها الشكل والمضمون بألفة نادرة بحكم بساطة الجملة الشعرية مع عمقها وصدقها فتنساب انسياباً رقيقاً مع وضوح المعاني والأفكار البعيدة عن الضبابيّة والغموض المصطنع الذي يعزل الشاعر عن قارئه.
    فشعر نازك الأنثوي يتميز برقة عواطفه وعمق الشعور مع ترفع واعتداد وكبرياء:
           وشفاه تموت ظمأى ولا تسأل..
           أين الرحيق؟ أين الكاس؟
           ونفوس تحس أعمق الإحساس
           وتبدو كأنها لا تحس
  فالأغنية عندها لحظة من لحظات التواصل المطلق مع الوجود بوصفه امكانية سعادة.. ودفقة من دفقات الاحتجاج المطلق على الوجود.. كونها ترى أن الشعر هو الأداة التعبيرية الأكثر شموليَّة في التوصيل السريع للآخرين، والأكثر قدرة على استبصار الواقع كونه وسيلة الانفعال اللحظي للحدث إذ يتكثف عبره ويتمدد ويأخذ أبعاداً في غيره.ونتيجة للحالة النفسيّة المركّبة لشاعرتنا لم تتحدث في شعرها عن الطبيعة الخارجيّة ولم تحاول وصفها وصفا حسيّاً جماليّاً، بل نظرت إلى الطبيعة كأخطار لعاطفتها وبخاصة مع البحر. 
لذا كان تركيزها على الشعر وتوليده من لحظات العاصفة.. فكانت أغنيتها الشعريّة من المأساوي التاريخي.. إذ ورثت من أمها روح الرفض الذي أفرزته روح الحياة الجديدة للمرأة التي بدأت تحس بحريتها الباطنة وينمو في نفسها الإحساس بالكيان والوجود المستقل.. لذا كانت رافضة لكل ما يستعبد الإنسان ويسحق إنسانيته من مقاييس يرضخ لها المجتمع.. كما تقول:
 
                        المقاييس.. ليس تعنيني
                        الاحاسيس.. هي قانوني 
لاعتقادها انها مقاييس جامدة لا ترغب ان تتطور مع الزمن.
في دمي إعصار.. عاصف بالجمود
وشظايا نار.. تتحدى الركود
وبهذا الانفعال العميق.. والوجدان الفياض انطلقت نازك الملائكة من أعماق ذاتها إلى الأفق العام تعلن حقيقة الصراع المتراكم الذي تعانيه المرأة التي أعتق العصر عقلها وفكرها ومنحها الشعور بالحرمان فاصطدمت بالواقع الذي مازال بعيداً عن العالم الذي تريده.. كونها من النساء اللواتي منحن عقلية واسعة غذتها مكونات ثقافية وفكرية، فضلاً عن نفسيتها الرقيقة وحسها المرهف جعلها تتخذ موقفاً فلسفياً تجاه المجتمع الإنساني، فهي تحلم بمجتمع تسوده الألفة والمحبة وتتحقق بين جوانحه العدالة.
إنَّها حواء القرون في شاعريتها النازفة من اصطدامها بواقع متخلف.. الرافضة لحياة تقليدية بعناصرها الساكنة:
              وسكون الحياة في جسد الأحلام 
              لم يبقِ قط للعيش معنى 
 الصراع المحتدم في نفس الشاعرة يتحول أحيانا إلى سخرية ويأس ومرارة من الحياة الرتيبة.. فولد عندها إحساس بالغربة نفسياً وفكرياً فراحت تعبر عن ذاتيتها الخاصة مقرونة بالاندماج العام بالتعبير عن هموم بني الإنسان وأحلامهم خصوصا قضايا المرأة، بصراحة ومنتهى الجرأة والدليل كتابها (التجزيئية في المجتمع العربي) وفيه توجه نازك النقد للوضع الاجتماعي السائد والعادات الجامدة وتحمل صفة الثورة على التقاليد:
               نحن الذين نسير لا ذكرى لنا
               لا حلم.. لا أشواق تشرق.. لا منى
               آفاق أعيننا رماد
               تلك البحيرات الرواكد في الوجوه الصامتة 
               ولنا الجباه الساكنة 
               لا نبض فيها.. لا اتقاد
               نحن العراة من الشعور ذوو الشفاه الباهتة 
  ويعلو الرفض عند نازك في قصائدها الاجتماعية التي صورت فيها حياة المرأة البائسة في (غسلا للعار) و (النائمة في الشارع) و (مرثية امرأة لا قيمة لها) كما تناولت حياة البؤس التي يحياها المجتمع في (الأرض المحجبة) التي تندد فيها بسياسة الحكام الطغاة.. لذا كانت ثورتها الشعرية عامة تناولت كل ما يتعلق بحياة الإنسان والمجتمع.. اجتماعياً وسياسياً وفكرياً.
  وأخيراً غادرتنا نازك بجسدها الذي احتضنته اهرامات مصر وظلت روحه مرفرفة بإبداعها تغازل القلوب المجددة بعد أن سبقها السياب وهو يصارع الألم ومات في غربته بعد أن حرث الأرض وشارك في بذرة التجديد.. تبعه على الخطى البياتي في غربته الدمشقية وكان بينهما بلند الحيدري يصارع التيار حتى ضفة
النهاية.