المرجعيَّات الثقافيَّة محرِّكاً للتساؤلات الشعريَّة عند أحمد بخيت

ثقافة 2022/06/24
...

 موج يوسف 
 
من الطبيعي والمفترض أنَّ الأديب لا يكتب بدافع من موهبة فقط، مهما كانت هذه الموهبة عميقة وأصيلة، بل إنَّ لحظة الكتابة الإبداعيَّة، اللحظة التي تُهيمن على مخيلته الشعريَّة هي لحظة تجلّ واستحضار لكلّ مخزونه المعرفي، إذ يتفجّرُ الخزين المتراكم من القراءات المترسّبة في ذاته، واللمحات الثقافية القارّة في قاع ذاكرته، فيظهر المنسوب الثقافي في النص على مستويين: نخبوي، وشعبي (جماهيري)، الأوّل يحتاج إلى أن يحلّق القارئ نحو سماء المعرفة حتى يقتنص معناه، ويقتطف المعلومة المبثوثة الناضجة فيه، أو يحاول أن يفتح أقفال معاني الاستعارات والكنايات والتراكيب التي يتكأ عليها السياق العام للقصيدة، وهنا قد يفقد الشعر جماليته، ورسالته عند انشغاله -أي المتلقي- بالبحث المنطقي عن آليات تركيب النص وهندسة ألفاظه!
وأما المستوى الثاني، فيكون النص الأدبي واقعاً في مصيدة الذوق الشعبي القريب من  الجمهور، فلا يستطيع الشاعر أن يخرج عن المألوف والمسموع واليومي، وبذلك تضيع عليه فرصة توظيف مشاربه الثقافيَّة في نصّه. ولكن يمكن الجمع بين المستويين من خلال استعمال اللغة الشعريّة القريبة من الاثنين، وفي المقابل تكون مرجعيات الشاعر (التاريخية، والأدبية، والفلسفية) هي: تساؤلاتٌ شعريّةٌ يستفُز الشاعرُ بها متلقيه ويجبره على دخول عالم النص.
 والشاعر المصري أحمد بخيت في ديوانه (لارا) الصادر عن دار تشكيل ـ الرياض عام 2022، وظّف أكثر مرجعياته الثقافية في قصائده، التي جاءت؛ لتعبّر عن مواقف إنسانية خاصة بالذات الشاعر وفهمه للماضي وتجلياته في الحاضر، وهذه الثلاثية (الشاعر-الماضي-الحاضر) شكلتْ ثيمةً واضحة في معظم قصائده، وكأنّ أخطاء الماضي وزيف التاريخ كانا هما المسؤولين عن نكبة حاضر الأمة، يقول بقصيدته (ما يوجع النون): (يا أُمةً علّمتنا كيف نهدمها / من يوم أن علّمتنا كيف تُبنينا/ يا أُمةً انجبتنا كي تُصابَ بنا/ ثكلى.. وأعراسُها تَدمى وتُدمينا/ يا أمةً من يتيمٍ واحدٍ ولدتْ/ في مأتم الحبِّ/ يتَّمت الملايينا).
إنَّ إتكاء النص على تكرار (يا أمة) ما هو إلّا شحن النصّ بالانفعال، لا من خلال الإيقاع الصوتي، أو حرف الروي في القافية، بل في  صيغته اللغويّة في نداء النكرة غير المقصودة (يا أمة) التي تحوّلت إلى خطاب مخصوص لأمّة بعينها وهي (الأمة الاسلاميّة) من خلال قوله (يا أمةً من يتيم واحد) وهذه الصورة (يتيم واحد) كناية عن النبي الكريم، الذي كان يتيماً، لكنّه بنى أمة كبيرة، وهذه الأخيرة يتّمت الملايين من أبنائها من بداية تأسيسها حتى اليوم، فالشاعر يضع تساؤلاته: هل نحن أُمة خُلقت للقتل؟ وصار قاموسها ممتلئاً بأنين الإيتام؟ ولِمَ تتعرض الشام والمدن الثقافية للحروب؟ يقول في القصيدة 
ذاتها: (قالت لي الشّامُ/ ما قالته لي امرأةٌ/ حُسنُ الأميرة يُشقيها ويُشقينا). 
الشاعر قد أنسن المدينة (الشام)، وهذه الأنسنة ليست خاصّة بفنيّة النص، بقدر ما هي ضخّ عاطفي يكثّف تساؤلات الأزمة التي لا إجابة لها: لِمَ الشام تعرّضت وما زالت تتعرض للخراب؟ هنا يستعين الشاعر بالثقافة الشفاهية (ما قالته لي امرأة حسنُ الأميرة يشقيها) فتعامل هنا مع الشام على أنَّها أميرةٌ جميلةُ فأنسنها هذا من جانب فني، أما من الجانب  المعنوي فإنَّ كلّ مدينة ذات جمال، وتاريخ ثقافي ومعرفي تكون معرضة للاستهداف، وأبناؤها لا يعرفون قيمتها ألّا بعد زوالها فيقول: (يبكي ابن زيدون في ولّادة وطناً/ والنّون تقتلنا شِعراً وتحيينا/ ليس المصابُ بأنثى نصفِ عاشقة/ مثل المُصابِ بأوطانِ المُصَابينا). 
إنّ القصيدة تناوبت فيها ثيمتان (الأمة والوطن)، فنلحظ في النصوص السابقة عندما كان السياق خاصاً بالمسلمين والتاريخ الماضي استعمل مفردة (الأمة)، وعندما بكى الحاضر والدول والمدن العربية استعمل  مفردة (الوطن)، وهذا التحول بين الثيمتين ما هو إلّا تحرّره من الهوية الضيقة وانفاتحه على هوية واحدة هي (الإنسان) وهذا الأخير وقع في بئر لا سيارة تمرُّ قربها بين الزمنين الماضي والحاضر، واستحضر الشاعر مدن الأندلس من خلال توظيف المرجعيات الأدبية (ولّادة بنت المستكفي) الشاعرة، وابن زيدون الشاعر الذي أضاع الحبيبة والوطن والسيادة فكان صاحبَ جاه، وكأنَّ الشاعر يعتقد أننا مصابون بالاثنين (الوطن والحبيبة)، لكننا مازلنا نصرُّ على ضياعهما. 
وقد استعمل معاني (الإصابة) للدلالة على أنَّ البشر مصابون بحبِّ الأوطان، لكنهم لا يجيدون المحافظة عليها، فكلُّ أوطاننا في ضياع وهذا ما يقوله في قصيدته (فلاحة): (من يكتبُ التاريخ؟ فأرٌ هاربٌ للسّدِّ لا يكفي/ لتسقط مأربُ يتأمّل الأشجار/ ثمَّ يرى بها خشب الصّليب/ ولا يرى من يصلبُ). 
إنَّ النصَّ المشحونٌ بالمكان الذي جاء مكتظاً بالعنف، والدماء قد تسعفه المرجعيّات الثقافيّة الواردة فيه: (التاريخ، صلب اليسوع، الشخصيات، المدن) فنلحظ أنّه قد استعمل أسماء المدن القديمة؛ لأنَّ سياقه الشعري كان في التاريخ الذي كتبه (الفأر)، واستعارة لفظة الفأر عن كاتب التاريخ الذي يكتب على وفق التوجه الفكري لسياسية الحاكم فمن الطبيعي أن يكون خالياً من الحقائق، والمدينة التي قُطِع شريانها وظلت نازفة دار النص حولها هي (مأرب وسدها) الذي يعود تاريخه إلى الألفيّة الأولى، وقد شيّدته الملكة بلقيس في اليمن، فما بقي منه الآن؟ إنَّ هذه المدينة موضوعة على خشب الصلب ولا تعرف من يصلبها. 
الشاعر بخيت في ديوانه يوظّف مرجعياته الثقافيّة كلّها في تساؤلات شعريّة، وهذه المرجعيات لم تشوّه فنيّة شعره، بل خدمت موضوعاته الشعرية التي تعدّدت في القصيدة الواحدة وجعلت من نصّه قريبا من النخبوي والشعبي في آنٍ واحدٍ.