عمر صناديقي.. صورة الحكاية

ثقافة 2022/06/24
...

 رولا حسن*
 
لطالما احتفظنا بصور كثيرة في أدراجنا، صور تؤرخ لحظات من حياتنا وتشكل فسيفساءها، صور على الكورنيش، في حدائق الجامعة، ونحن نحضن من نحب سواء أكان صديقا أم أبا أم أما إخوة.. كل صورة حكاية، الصور تزهر في الألبوم وحياتنا تجف. الآن اقتحم الفيديو ووسائل “الميديا” واستبدل الصورة بأخرى بديلة مملوءة بالحياة. 
إذا: ماذا بقي للصورة أن تقوله في عالم مليء بالفيديو، سؤال راودني وأنا أتأمّل صور الفنان السوري عمر صناديقي، ولا سيما صورة “الطفل النائم في حقيبة” التي التقطها عام 2018 لوكالة رويترز في مارس اختارتها CNN أواخر العام 2019 غلافاً لقصتها عن 100 صورة تحدد ملامح العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
يقول صناديقي، إنَّ “الرسالة الحقيقة للصورة لا تصل مالم يشعر المصوّر بوجع الناس”.. ذلك الوجع الذي يحز الروح، ويجعل من لحظاتها القاسية سكيناً تعرف كيف يكون الموت أكثر قرباً، الوجع الذي يعمل صناديقي جاهداً في صوره، وإن صح التعبير لوحاته لإيصاله إلى المتلقي بخفة الكائن التي لا تحتمل، كما في معرضه الذي أقامه في دمشق مؤخراً وعنوانه “بلا قيد” وقد ركز فيه على الأيدي المعقودة خلف الظهر لأشخاص أغلبهم كبار السن تغيب ملامح وجوههم بينما يعقدون أيديهم خلف ظهورهم غارقين في لحظات شعوريَّة مختلفة.
ربما هي اللحظة التي تسبق الاستسلام للقيد رغم أنَّ أبطالها ليسوا مقيّدين فيزيائياً، لكنه يشير عبر الصور إلى القيد الفكري كما عبر ذات حوار.
يعمل صناديقي على البعد التشكيلي الفني في اللوحة لأنّها باعتقاده تجعل من اللقطة أكثر تأثيراً وأكثر قدرة على وضع اليد على الجرح كما يقال.
إنَّ تجميد الصورة في لحظة ما تمتلك في المتلقي تأويلاً وخصوصيَّة وتشي بأنَّ هناك تفاعلاً نفسيَّاً بين المصور والمتلقي، وهنا تتشابه هذه اللقطة مع قصيدة الومضة التي تكثف حالة شعوريَّة معينة في كلمات قليلة الأمر، الذي يتقاطع مع ما قاله باشلار: “إن القصيدة وقفة قصيرة في الزمن”. 
الأمر ذاته يتلاقى أيضا مع ما قاله تاركوفسكي: “إنَّ السينما امتلكت لغتها عندما تمَّ القبض على الزمن” بهذا المعنى تصبح اللقطة الفوتوغرافية مهيمنة على لحظة ثابتة تمَّ اقتطاعها من سياق زمني ما، لكنها لحظة محرضة وموقظة إنْ صح التعبير وتمتلك جزءاً لا يستهان به من الحقيقة هذا إن لم تقل الحقيقة بأبسط أشكالها.
يحرر صناديقي لقطته ويخلصها من كل قيودها، لذلك تغدو قابلة للتأويل بسبب ذلك الثبات في الزمن، فأنت أمام حاضر ومستقبل تشير إليه دلالات كثيرة في الصورة تستطيع كمشاهد التكيف بمساحتها المختلفة والتحكّم بتأويلاتها المختلفة، وفقا لذائقة المتلقي التي تختلف بحسب الثقافة والبيئة وأشياء أخرى وبهذا الشكل تصبح اللقطة الفوتوغرافية أكثر من مجرد مكنونات مرئية ضمن إطار وتتجاوز ذلك نحو اللامرئي خارج إطار الصورة.
لم يكن الطفل في الحقيبة المعدة للسفر ولا الأيدي المعقودة خلف الظهر لكهول ونساء وأطفال مجرد لقطة عابرة، إنَّها طريقة لفهم الفنان لعالم الحرب ونتائجه المروّعة والقاسية، إنّها طريقة لفهم الخذلان والخسارة والفقد في حرب لا نملك إزاءها شيئاً. إنَّ اختزال مشهد الهروب من الحرب بهذه الطريقة مع حقيبة قد تضمُّ ما خفَّ وزنه وغلا ثمنه لم تحمل سوى طفل نام من تعب السفر وهول التنقل ورعب الكبار وكأنَّ عمر يبني نصّاً شعريّاً أو ربما نصّاً قصصيّاً قصيراً جداً موازياً تماماً للصورة عبر تأويلاتها اللامحدودة.
الصورة بهذا المعنى تتحدى الكتابة والموسيقى تماماً كما تتحدى عين المشاهد ولا سيما حين ترغمنا على الانتباه إلى أن كل لحظة من لحظات الحياة العابرة فيها الكثير من الفلسفة والكثير من الشعر، وكل ذلك ينتظر فنانا يلتقط بكاميرته الصور مؤرخا الحياة والكاميرا، هنا أشبه بحصادة بدلا من أن تملأ البيدر قمحا تجعل من عيوننا بيادر لمعاني الحياة المتعددة.
يقول صناديقي في الفيلم الذي أعدته الميادين عنه منذ فترة قريبة ويتحدث عن الحقيقة الصورة والصورة الحقيقة ورموزها المتعددة: “إنَّ الصورة مشهد وهي تختصر وجعاً لا ينتهي وهي تعني بشكل من الأشكال أنَّ الإنسان داخلك لم يمت” برغم كل ما جرى من قتل وترويع وخسارة وفقد. 
وهذا يعني إنْ صح التعبير أنَّ الصورة بهذه الطريقة هي ردُّ فعلٍ ضد اللاإنساني الذي يحدث وضد التوحّش الذي تمضي إليه الحياة المعاصرة.
إذا.. هل نؤرخ بهذه الطريقة لإنسانيتنا المهدورة في زمن الحروب والقتل والتهجير والإقصاء، هل نبحث عن بيت لإنسانيتنا في صور تعلق على الحائط أو تحفظ في ألبوم، الصور تحكي حكاياتنا وآلامنا وتجيب عن أسئلة كثيرة قد لا نمتلك إجابات لها لأنَّها التقطت عبر آليَّة شعوريَّة عالية الحساسيَّة وفي لحظة نقاء إنساني عالٍ لا يملكه إلّا الفنان.. فطوبى لهم وهم ينعشون إنسانيتنا المهدورة في زمن العنف والإقصاء والقتل والحرب.
* كاتبة من سوريا