الكاتبة الإيطاليَّة {جولياردا سابينزا} خلود الإرث المُستحق

ثقافة 2022/06/26
...

 عدوية الهلالي 
لم يتم التعرف على قيمة جولياردا سابينزا - وهي امرأة تمتلك قلما فريدا – في  خلال حياتها وعرفت الشهرة بعد وفاتها كما هو الحال مع العديد من الكتاب، الذين نالوا المجد بعد رحيلهم، كانت مسيرتها الأدبيّة جديرة بالملاحظة، وقد باءت محاولاتها العديدة لنشر فن الفرح بالفشل ضمن عالم الروايات الذي استغرق منها ما يقارب العقد من الزمن، لكن بعد عامين فقط من وفاتها، التي حدثت في عام 1996، نشرت سيرتها الذاتية، بفضل رفيقها أنجيلو بيليجرينو الذي تأثر إلى حد كبير بالعمل السامي لزوجته. 
قالت له ذات يوم عندما كانوا يتعاملون مع همومهم اليوميّة: "إذا تركت همومك لليوم التالي، فسيأتي الغد محملا بأكاليل من الزهور والنبيذ والكرز". في عام 2005، كان نشر النص الكامل لسيرتها في دار النشر للفرنسيّة فيفيان هامي قد فتح لها أبواب النجاح فضلاً عن أن إعادة اكتشاف الكاتبة في إيطاليا سلط الضوء على العديد من الكتابات غير المنشورة لها، كما أعلنت منشورات (اينودي) المرموقة أنها ملتزمة بنشر أعمالها الكاملة. ولدت جولياردا سابينزا عام 1924 في إيطاليا لأبوين ناشطين واشتراكيين. في وقت دمرته الحرب، تمّ استهداف والديها عدة مرات، فأضرمت النيران في مقرّ صحيفة (صرخة الشعب)، التي تديرها والدتها، وسيذهب جولياردو، ابنهما، ضحية غرق غامض.. لقد تسبب النظام الفاشي في ذلك الوقت في تراجع مستوى المعيشة. وعندما كانت في الرابعة عشرة من عمرها، أخرجها والداها من المدرسة بعد أن اعترضا على تربيتها الفاشية وأحرقا زيها المدرسي أمام المنزل. أحزنها ذلك كثيراً لأنها تحب الدراسة. ومن عام 1940 إلى عام 1958، ظهرت سابينزا في المسرح والسينما. ومن دون الكشف عن هويتها، كتبت العديد من السيناريوهات للمخرج ماسيلي، رفيقها في ذلك الوقت. ثم فقدت شغفها بالمسرح بعد وفاة والدتها لكن هذا التأثر بالمسرح سيكون متجذّرا في كتاباتها، إذ تسود قوّة الصور وكأنّها تكتب شعراً بصريّاً بعمق. في شباط الماضي، تم نشر خطاب مفتوح يروي طفولتها تحت تأثير الغضب. إنّه تطهير تمت كتابته نحو عام 1963، وهو أحد النصوص الأولى للمؤلفة، الذي لم يتم نشره حتى عام 1967 تقريبًا، بلغتها الأصلية. كانت كتاباتها كلها سيرة ذاتية باستثناء رواية (فن الفرح)، التي كتبت من عام 1967 إلى عام 1976. وتروي قصة الفتاة موديستا، التي لا تحظى بفرصتها من التعليم لكنها تتمكن من إخراج نفسها من بيئتها البائسة بفضل ذكائها وإرادتها العنيدة. إنّها رواية تتناول اكتشاف الجسد، والفرح، وتعكس رؤيتها للعالم الذي أشارت إليه سبينوزا، إذ ترى أن الفرح هو قوة الوجود، وبهذه الطريقة تصوغ موديستا فلسفتها الخاصة في الحياة. إنّها رواية نسوية: إذ تتخلّص البطلة من الروابط الأسريّة والدينيّة والسلطويّة لتحقيق نفسها، وتعمل من أجل بناء مساحة من الحرية حولها وتعتمد سابينزا، مثل البطلة، على الاختيار الاشتقاقي للكلمات. إنّها تبحث عن المصطلح الذي يعبّر بدقّة عن الفكرة المحسوسة. 
وفي عام 1976، وبعد تسع سنوات من الكتابة، تركت سابينزا هذه المغامرة وهي منهكة. ثم بدأت مشروع تدوين أفكارها في دفتر على مدار الأيام. واستمرت في ذلك لمدة عشرين عامًا، حتى وفاتها في عام 1996. وقد أدى الانبهار  الذي شعرت به بشخصيّة والدتها القوية والمهابة إلى تضخيم تأثيرها عليها. فقبل وفاة والدتها، لم تسمح سابينزا لنفسها أبدًا بالكتابة لنفسها والتنفيس عاطفيًا وفي السنوات الأخيرة من حياتها، ستفقد والدتها عقلها وستقضي سنوات عدة في مصحة عقليّة وبعد ذلك صار يجب أن تصبح الطفلة هي الأم.
في عام 1983، تم نشر رواية (جامعة ريبيبيا) بواسطة دار نشر ريزولي، بعد ثلاث سنوات من اعتقال سابينزا في سجن ريبيبيا ووضعت سابينزا على الورق انطباعاتها عن هذا العالم المصغّر لمجتمع متحرّر من القيود: مثل كل من كانوا هناك، فقد توصلت إلى لغة المشاعر العميقة والبسيطة، بحيث يمكن للغات واللهجات والاختلافات في الطبقات والتعليم أن تجعل من ريبيبيا جامعة عالميّة رائعة حيث يمكن للجميع، إذا أرادوا، تعلم اللغة الأولى!.
حقق الكتاب نجاحا كبيراً. لكن من المفارقات أنه تم استقباله في ذلك الوقت في إيطاليا كدليل على تجربة برجوازيّة في السجن. كانت كتابة هذه الرواية بالنسبة لسابينزا محاولة لاستكشاف وتوضيح ما عاشته: لأنّها حتى وهي مسجونة، كانت الكاتبة متمردة.. ففي عام 1987، نشرت رواية (يقين الشك) ليكون خلاصة وافية عن القوة الحقيقية لـسابينزا. وتتبع القصة التجوال النابض بالحياة الذي قادته الكاتبة في ايطاليا مع روبرتا، الناشطة الراديكاليّة الشابة، عند إطلاق سراحها من السجن إذ ترى الكاتبة عدم الاتساق على أنه طريق للمضي قدمًا كما أنَّ "التماسك" هو كلمة طوباويّة فائقة كانت تمثل بالفعل في الأربعينيات أو الخمسينيات من القرن الماضي واحدة من العديد من الأكاذيب الأيديولوجية، وواحدة من الحقائق اليقينيّة العقائديّة. وفي عصرها أيضًا، ستكون هناك أكاذيب، ولا يمكن إعفاء أي منا منها، ولكن على الأقل سيتم مناقضتها في كل خطوة، أو عكسها، أو الاعتراف بها على أنّها أخطاء.
هناك قراءات تغير نظرتك للحياة. وفي كل مرة يغوص فيها القارئ في كتاب من تأليف سابينزا، تضيء المناظر الطبيعيّة من حوله. فلغتها، المضيئة، الحالمة، هي متعة للحواس. وما تزال هناك نصوص غير منشورة لسابينزا ومسرحها ومراسلاتها (رسائل إلى أصدقائها وشعرائها ومخرجيها، بما في ذلك فيسكونتي وفيلليني وقصائدها، التي صدرت في أيار الفائت تحت عنوان (الأسلاف). هذه المجموعة، التي كُتبت بعد وفاة والدتها ببضع سنوات، تزور أرض الأمومة، التي كانت عقيمة، بسبب علاقتها بأمها التي فقدت عقلها.
واليوم، تتم دراسة أعمال سابينزا في المدارس الإيطالية: ولا شك في أنّها كانت ستفتخر بدخولها أراضي المعرفة.. وفي مدينة جايتا حيث دفنت، نقشت على شاهدة قبرها عبارة "تخليداً لذكرى الصوت الحرّ".