الوحش الأخير

ثقافة 2022/06/26
...

 حميد المختار
أهلا بكم في بلاد الوحش الكاسر واحذروا من شراكه المنصوبة لكم في كل مكان حتى في بيوتكم وأسرَّتكم الزوجيَّة، إن وحشنا كان بالأمس بين ظهرانينا، وهو يعرفنا جيداً ونعرفه بكل تفاصيله، لذلك فهو لا يرحم النساء ولا الأطفال والشيوخ، كلهم يدخلون عتمته وسراديبه من دون تردد..
 
كنا اعتقدنا بموت الوحش الذي أناخ بكَلْكَلِه على سماء المدينة وبسط سيطرته، حتى اعتقد الناس أنّ ما من إنسان سيتمكن يوماً من النجاة من براثنه..
ففي ظل هيمنته أخذت المدينة تغرق في الظلام شيئاً فشيئاً، الظلام كان ظلامه الداخلي الذي هيمن على المكان، أما الضوء فقد انتشر في الأماكن التي يريدها هو، إنها أضواء ملونة وصاخبة، بينما نسبح نحن في ظلماتنا المتداخلة، ظلام يُطبق على ظلام، كل الذين نجوا منه يصفونه بأوصاف مختلفة، فهو أحياناً أكبر حجماً من الذئب الذي يصل حداً أكبر من حجم الفيل، وآخرون يقولون إنه كائن مصنوع في مختبرات خاصة أصيب بفيروس غريب فتكوَّن هجيناً من تنِّين وبيوض لحيوانات منقرضة، لذلك فهو لا يخاف من رصاص الصيادين..
ثمة الكثير من الضحايا؛ إنهم ضحايا الوحش، آخرون يقولون هو ضخم الجثة كالبقرة وآخرون يؤكدون أنه يطير كالعقاب، وهناك من يقول إنه ليس ذئباً!!
 
- إن لم يكن ذئباً فما هو إذن؟
- إنه الشيطان
- يا إلهي
 
ثمّة صياد يقول إنّه في إحدى المرات كان الوحش على مرمى نار بندقيته، أطلق رصاصة عليه، رآه ينهار وسقط أرضاً، ثم ما لبث أنْ قام مجدّداً، لكنه فقد أثره وكأنه اختفى بين الوديان والسفوح، إنه يحمل خطاً أسود على ظهره وهو مزوَّد بما يشبه الإبر والأنياب البارزة المعقوفة، وله قرون طويلة كقرون الأيل، حتى صار الناس يتحدثون عنه كثيراً بل وأخذوا يؤلّفون عنه الأغاني والأناشيد، في حين كان عليهم أنْ يقيموا الصلاة ويُطلقوا ألسنتهم بالأدعية..
ثمة من يتساءل:
- ما إذا كان الوحش مظهراً من مظاهر الشيطان أو ربما هو من علامات الساعة أم أنه وهمٌ، وهم كبير شَغَل الناس أنفسهم به زمناً طويلاً.. 
- إذن هل تعتقدون أنّ الوحش غير موجود وأن سكان المدينة اختلقوه؟! 
والمغزى هنا هو أنّ أحداً لم يرَ التنين أو وحيد القرن إلّا في الكتب والقصص الأسطوريَّة وحكايات الجدّات، صحيح أنّ الأكاذيب تبدو كالحقائق أحياناً حين نزوِّقها بكلمات منمّقة.. وحين همَمْنا بمطاردة الوحش في السهول والغابات والوديان والكهوف، نسينا أنّ الوحش هو الذي كان يطاردنا في الأزقة والحواري الضيقة والبيوت والأسرَّة وخزانات الملابس، إنه يتوغَّل فينا، في أسرارنا ودفئنا العائلي.
كنتُ أقولُ كلّما مرَرْتُ على مكان فيه أثر ما:
- مات أُناس كثيرون هنا
- وما يُدريك بذلك...؟ 
- لأنني أسمع صرخاتهم!
- هل تمكنت أنْ تَمزجَ دمك بدم هذا الوحش؟ هل يعقل ذلك؟ 
- إنّ الذي يشاطرنا أحزاننا لا يمكن أن يكون وحشياً...!!
ظل الناس سنوات طويلة يبحثون عنه في البرد والحر اللاهب، أما رجال الدين فقد ملؤوا جنبات المدينة بالخطب الرنانة: 
- استمعوا إلى التهديد والوعيد الذي يوجهه الرب لكم، ثم صاروا يردّدون كلام الرب؛ سوف آتي إليكم كما لو كنت دُبّة خُطف صغارها، سوف ألتهم أولادكم كالأسد وأبقر بطونكم وسأسلِّط عليكم الوحش الذي سيلتهمكم أنتم وقطعانكم وسيحوّل طرقاتكم إلى صحارى!!
- إلى متى ستظل غاضباً أيها الرب؟
- ثمة شمعة لكل ضجة متشظية على الأرصفة
- هل تعتقد أننا نعيش في زمن يخلو من المنطق؟ الوحش الآن يتمتع بعقل مفكر ويمكنه في كل وقت أن يختفي ساعة يشاء.. 
- إنّ هواء الليل يجعلني أرى الأوهام مُتجسِّدة أمام عيني
- لكنني أشعر به يهرب مني في كل مرة، هل تعتقد أن الوحش سيستسلم ما أنْ تقع نظرتك عليه؟ 
- لعلك أنت من تخيفه!
- وهل بإمكاني أنْ أخيف وحشاً كاسراً؟
- الغنائم الصعبة يكون طعمها لذيذاً دائماً..
ثم فجأة وبعد سيل عارم من السنوات العجاف تتحطم أسطورة الوحش فينفق في الساحات العامة والحدائق والقصور ويموت حتى في العقول والأفئدة، ولكن ما حصل في الحقيقة لم يُذكر في كتب التاريخ، لقد سعوا إلى طمسه بالأكاذيب والتلفيقات، ثم اكتشفنا في ما بعد أنّ الوحش ما هو إلّا سلاح موجَّه في يد عقل شيطاني مدبِّر ومريض، هذا العقل هو الذي يحرك الوحش ويريد من خلال تهديده أن يسمع ردود أفعال الضحايا والناس المطارَدين في المدن الخائفة، يريد أن يُحْدِث ضجةً وأنْ يزرع الخوف في القلوب..
ثم كتَب المؤلّفون في مدوناتهم عن الوحش وهلَّلوا وطبَّلوا ثم قالوا:
- إنّ لهذا الوحش سيداً ونحن نريد معرفته
- وأين سيذهب الآن العارفون وشيوخ المدينة؟
- لقد ذهبوا ليخاطبوا الأشجار، لأنها أيضاً تتكلم والناس لا يعرفون ذلك لأنهم لا يجيدون الإصغاء أو الإبصار 
- نعم هذا صحيح فقد زعم الهنود أيضاً أنهم يستطيعون أنْ يروا ما لا يمكن إبصاره
- الوحش في الغابة والذئاب حولنا
- يبدو أننا سنضطر إلى أنْ نرقص رقصة الدم هذه الليلة 
- سيأتي الوحش في الصباح الباكر
في تلك الليلة استحضر العارفون وشيوخ المدينة أرواح الغابة بلغةٍ لم يفهمها أحد، فجاءت الذئاب وهي تدعو الوحش للمثول أمام أرواح الغابة،
- هل هذه رائحتك؟ 
- نعم أظنها رائحتي 
- رائحتك كريهة، لقد شمّ الوحش هذه الرائحة
- نعم ففي عروقنا تجري الدماء نفسها
- عندما يبلغ الرعب ذروته سنتمكن من مساومة السلطة، والسلطة إنْ لم تتمكن من إيقاف وحش واحد فتخيلوا ما ستفعله لو ظهرت وحوش أخرى من جميع أنحاء البلاد؟! 
- فات الأوان، لقد أصبح الوحش خالداً فينا 
إنّ العالم الذي أوجد الوحش يوشك على الانتهاء، وعليَّ أنْ أسرع لأنّ قصتي هي الأخرى تشارف على نهايتها، أرى الآن المخبأ السري الذي كان فيه الوحش يلفظ أنفاسه الأخيرة.. سنقيم هذه الليلة طقوس الولاء لوحشنا الجميل وبعد ذلك سنحتل ما تبقى من المدينة.