الشعر والنشر 2

ثقافة 2022/06/26
...

 ياسين طه حافظ 
أوصلنا الكلام السابق إلى حقيقة أن الشعر لكي ينشر مطبوعاً يستوجب دعماً، إسناداً أو عوناً وهذا الإسناد أو العون إسناد مالي وعون مالي لا كلمات تشجيع ولا توسطات ولا لغة إقناع، قبل الخمسينيات وبعدها بسنوات صدرت كتب مطبوع على غلافها: “بمساعدة وزارة المعارف” الكلمة هي: “بمساعدة”، أي أنه لا يصدر من دون مساعدة. وهي بداية إحساس مؤسف وافتقار. صدرت كتب “بمساعدة” نقابة المعلمين، ولتكن أي مؤسسة أو منظمة أخرى. هذا يعني نحن أمام طريق ضيق لإيصال أو لمنح المساعدات. 
 
في بريطانيا هناك المجلس البريطاني Art Council of Great Britain  الذي تأسّس بعد الحرب الثانية. والذي اهتمَّ بدعم الرسم والنحت والموسيقى “والأوبرا والبالية ضمناً..”، لم يكن الأدب بينها. حصل من بعد تساؤل إن كان للأدب أن يكون ضمن رعاية المجلس أيضاً. بعد بضع سنين، وجد المجلس سبباً لإدخال الأدب وهكذا دخل، كما يقال، من الباب الخلفي. 
لا أستطيع حسم الأسباب فالكتابة الأدبية فن، وفن الكتابة الشعرية أكثر وضوحاً فنياً بين ما يُكتب. مع ذلك لا نملك الآن جواباً. 
بقي أن نقول إن الشعر إذا لم يُطبع يمكن أن يُقال. لعل هذا سبب عندهم، غير منتبهين بعد لعبور مراحل الشفاهيَّة وإن الفن مقروءاً ضرورة معاصرة.
في 1949 دعت الحكومة البريطانية المجلس البريطاني للفنون بأن يهيئ برنامجاً لاحتفالات يوم بريطانيا وهذا استوجب منهم عدداً من النشاطات أو الأعمال الجديدة. وإذ وجد الرسامون والنحاتون والموسيقيون فرصتهم، صار من غير العدل أن لا شيء للشعراء باقتراح من عددٍ من الأعضاء تقرّر أن تكون مسابقة للشعر المكتوب بالإنكليزية على مستوى العالم، وفي هذا المقترح قسمان الأول للقصائد المتفردة، على ألّا تقل عن 300 سطر وأخرى للمجاميع الشعريَّة، ست أو اثنتي عشرة قصيدة قصيرة “لا تزيد الواحدة عن 50 سطراً” المحصلة أن أكثر من 2000 شاعر دخل المسابقة ومن جميع أنحاء العالم. 
طرحت هذا المثال وبهذا التفصيل لأقول هذا العمل التشجيعي كان عملاً خدمياً في جوهره. كان للاحتفال بيوم المملكة. فهو اذاً ذو مسحة إعلاميَّة. وأن دعم الشعر ما كان أساساً احتفاءً بالفن الشعري ولكن بحضور الشعر واحداً من الفنون المساهمة في الاحتفال. ومن طرائف هذه المسابقة أن قصائد طريفة جاءت من جزر بعيدة، واحدة معطرة، أخرى كتبت بعدة ألوان وواحدة جاءت من جزيرة في المحيط الهادئ بخط اليد مرفقةً بها ورقة ذات 5 باوند، كتب الشاعر يرجو طباعتها على الآلة الكاتبة في لندن وهذا ثمن ذلك. ما يعنينا أن القصائد الفائزة طبعت عام 1951 ونُشِرت ضمن منشورات بنجوين وتحت عنوان “قصائد 1951”.
مرت محاولات أو نشاطات لا تخلو من روح اللهو. ذلك بأن يقرأ، صحبة الموسيقى، في النوادي أو الحانات، شاعران.. أيضا جربوا رحلات قصيرة وقراءات. أيضاً مارسوا ذلك في محطات الأنفاق.. كلها لم تكن حلولاً ولا ترتقي للشعر المهم والجاد، إلّا فلتات قد تثير ناس الشارع وتُقابَل، بدل النقد الأدبي، بالصفير ورفع الأنخاب أو رمي علب البيرة أو ضرب على الموائد.. ثم ينتهي كل شيء. لم تكن حلولاً، ربما كانت تعبيراً عن هوس وحماسات. ثمّة مشكلات تواجه الحلول. أولاً كل شاعر شاب أو ناشئ أو جديد يرى إذا رفض الناشر كتابه أن شعره جيد وأن الناشر على خطأ. 
أيضاً هذا الشاعر لا يفكر بالكلفة التي على الناشر أن يتحملها. ثالثاً إن كانت المجموعة جيدة فغالب معدل الطبعة الأولى هو 1000 نسخة، بينما غالب الطبعة الأولى من الرواية، الجديدة، هو ثلاثة آلاف نسخة. هذا يزيد من كلفة النسخة الواحدة من الشعر. يجب أن لا ننسى أن علينا فضلاً عن الطبع هناك ثمن الورق والتغليف والخزن والنقل وهذه كلها تستوجب مالاً، ولهذا هناك دائماً الكثير من رفض كتب الشعر بالنسبة للقليل جداً ممّا ينشر.
ذلك لا يخرج عن فحوى ما كتبه يوماً جارلسمونتيت، عن فيبر آند فيبر، في الجارديان بعنوان “ثمن نشر
الشعر”.
بنجوين قامت بتجربة أخرى: أن تنشر سلسلة شعرية في كل كتاب ثلاثة شعراء أحدهم شاعر جديد لم يُنشر له من قبل وبطبعات ورقيَّة شعبيَّة.. لكن ثبت من بعد أن ذلك ليس حلاً. بقي قرار مُعلقاً، الناشر معلقة انتهى إلى لا ليربح من الشعر ولكن ليستعيد كلفته. وهذه حال لا تتحملها دار النشر لمدة طويلة وبسهولة بعض دور النشر تنشر كتابا شعرياً بين حين وآخر، من باب التكامل أو “تهتم بكل الآداب والفنون”..، امتياز!
بعض دور النشر تقول: إنها تودّ نشر الشعر لكن النقاد ومراجعي الكتب لا يعنون بالشاعر الجديد فلا أحد يلتفت لكتابه. حتى الآن الحجج غير مقنعة تماماً. ثمّة حقيقة أكبر هي أن الشعر لا يلقى في النشر قبولاً واسعاً وشراء قصة بوليسية أو مغامرة أو جنس، هو أضعاف شراء أفضل مجموعة شعرية. حديث الأرقام غير حديث
العواطف.
وسواء أقصى الشعر نفسه عن السوق بسبب مستواه أم غرابته عن الثقافة العامة، أم أن الثقافة العامة ثقافة السوق وشأن يومي، في الحالين الشعر يتعذّر نشره اعتماداً على مبيعه أكثر من هذا، “لا انتظار الربح ولكن في الأقل استعادة الكلفة” وهذا ما قاله لي رئيس مؤسسة المدى وأنا في حديث معه في هذا الشأن.
يبقى لنا سؤال، بحثاً عن المنطقي والعملي، هل يمكن لناشر أن يستمر على الخسارة وعلى أن ينشر ما لا يربح؟ ستغلق دار النشر أبوابها خلال سنة أو سنتين ولا أحد بعد يسرع لإنجادها. 
حل أي مشكلة يجب أن يكون عقلياً فلننتقل لأسباب أخرى، إن لم يكن لايجاد حل فعلى الأقل ليكون كل شيء واضحاً!