الأسطوري.. الاشتباك المستحيل

ثقافة 2022/06/27
...

 ناجح المعموري 
استقرار الأسطوري وتكرّسه في ما هو يومي دليل قاطع على العلاقة القائمة بين الأسطوري والاجتماعي وأيهما أكثر في الحضور والتداول؟، الأسطوري هو المجال الثقافي والديني الأكثر هيمنة، لأنه متأت من عتبة أولى ومبكرة، أسهم بإنتاجه المكان/ المعبد، الذي ذهب بعيداً غير الكادر الكهينوتي الموجود فيه، والمسؤول على كل شيء في حياة الجماعة، حتى تحول عقلا وتفكيراً لها، وظل منشغلا بها الى آفاق بعيدة، حتى اختارته ملكاً بعد أن تطور المكان وصار مدينة وبعدها دويلة مدينة.
لكننا لا نستطيع تجاهل الأصل الاسطوري الذي يمثل عتبة التشكل الثقافي، حيث كانت الأرض أول الأمهات، منتجة الغذاء وهي العذراء الأولى، المنتجة للحياة من خلال استمرار وديمومة الانبعاث والخصوبة. كما أنها مسؤولة الخلق في الحياة والعالم. واعتقد واثقاً بأن الأم الأولى، هي مؤسسة لليومي الأول، البدئي، الذي رسم حدود الحياة والخلق، على الرغم من أنها تمثيل للدور الأمومي العفوي، أنّه اليومي الذي تحدثنا عنه. يومي الأم/ الأرض التي منحت الكثير من دون معونة أي ذكر، أعطت كل أشكال الحياة وهي التي تحرّض على تفريخ الأجنة في بطون النساء. والأولاد ليسوا ثمرات الذكور، وإنما من مادة الأمومة فقط. فبعد أن تحبل بهم يتخذون مكانهم في بطون الأمهات، لا على التعيين، تنتج الثمار أو الأولاد، وخصب النساء تتضامن مع خصوبتها. وهنالك اعتقاد أن كل ما تبذره امرأة حامل سوف ينبت بذات الطريقة التي ينبت فيها الجنين.
هذا رأي مهم ومعروف في الدراسات والبحوث الخاصة بالعتبات الحضارية الأولى واجمعت الجميع على هذا الرأي فيه عدد من الأفعال، وقلنا قبل الآن، بأن الفعل، جهد بشري مستمر، وغير محكوم بالتوقف، والتعطل، يومي إذن، عرفته العتبة البدئية، في التاريخ الإنساني، ودور الأم الرمزية/ الأرض والأم البايولوجية التي صار حملها وانجابها فعلاً طقسياً ويومياً لا بمعناه الزمني، وإنما بدلالته المتكررة لدى الأمهات جميعاً.
إنها أيضا ملكة السماء التي أولدت الآلهة: ايلماتار عذراء كاليفالا، ونوت في مصر.. في بدايات الأزمنة، كانت نوت قد عملت على إخراج آتوم من العدم.
وجدت حينما لم يكن قد وجد شيء بعد. كانت العجلة السماوية المرصعة بالنجوم على جوانبها، كانت الأم، والزوجة والابنة لـ “رع” والشمس التي كانت تختفي كل الأيام، كانت تولد منها كل يوم من جديد، إنها الربة التي خصبت، فهي باختلاطها مع “نيت” السلطة العليا التي تدير كل ما هو حي أو ميت، فالأبدية هي خالقتها الخاصة، وهي تشخص منذ الأزمنة الموغلة بالقدم، المبدأ النسوي الخالق لوجودها الخاص، والذي يكتفي بذاته والذي يعترف بفعله في كل مكان. إنها أيضا القمر المخصب، أم الأعشاب ومعلمة النساء، إنها تشبع الأرض وتشغل الحقول بتوارتها: حتى دم البشر، ينمو ويتناقض بحسب صونها، وعلى الصبايا أن يتحاشين النظر اليها أن لا يردن أن يصبحن كباراً.
ولأن الأم الأولى/ البدئية، هي المولدة للطبيعة ذاتياً، من غير اتصال  بيالوجي، بل ادخال ذاتي أحيانا ورمزي، مثلما هو حاصل في كل ميثولوجيات العالم السماء وماؤها/ منيها هو النازل نحو الأم مفتوحة الفرج ليدخل فيها ويخصبها، إنها جاهزة للاتصال الادخالي في كل لحظة، تستقبله وتفرح به وتلد كل ما هو على الأرض من انبعاث وأشجار وخضراوات. هذا هو اليومي والمألوف عبر تكرره، أو بشكل أكثر دقّة، هو الاتصال الذي كان وظل حتى هذه اللحظة. يومي لم يفكر به عميقاً، لأنه بحاجة الى دراسة معتمة. لذا أنا أسجل هنا دور المرأة في ابتكار اليومي بالحياة وبالتالي منحت وظيفتها لعدد غير قليل من الالهات، مثل عشتار، عشتروت/ أناهيد، فينوس، ايزيس، ديمتر، افروديت، سيبيل، يفضي هذا الى اعتبار الأم الكبرية سماوية لأن السماء مكانتها، وتنزل أحيانا إلى الأرض، لتؤدي بعض الوظائف، وهذا ما كانت تقوم به الالهة انانا/ عشتار. 
إنها امرأة سماوية ترمز لكل ما هو نسوي، وانبثاق الفكرة الالهية الأولى، انها عذراء وأم في آن واحد. وهي أم مومس: إنها ايزيس صادرة عن النور البدئي، وأم كل الأشياء، إنها الابنة البكر للعصور، فملكة السماء تمتزج مع الالهة ويشكل الجسد برمته قبة السماء، ربة بألف اسم وهي في الطبيعة “العنصر المنفتح لكل جيل (...) تتلقى كل الأشكال وكل النماذج. إنها تقول: أنا الابنة البكر لكرونوس، وأنا التي ارتفع... أنا التي فصلت الأرض عن السماء، أنا التي أظهرت للنجوم طريقها، أنا التي نظمت مسيرة القمر والشمس.
عندما قال جلجامش أنا.. وكرّرها مراراً، فانه يستحضر من خلال خطاب الاله الأكبر في تعاليه، وتساميه السماوي، كذلك يردد ما قالته الأم الكبرى وهي تقول أنا الابنة الكبير، للاله كرونوس وهي الماضية بتكرارها للانا كي تمنح نفسها قدرة استحضار الذات المقدسة: وأنا التي ارتفع أنا التي فصلت الأرض عن السماء، أنا التي أظهرت للنجوم طريقها.. أنا التي نظمت مسيرة القمر والشمس.
ينطوي هذا الاستحضار على ابلاغ واضح عن وجود مقدس في الذات، والانا تعلن عن ظهورها وتقول ما سجلته الاسطورة الخاصة بكرونوس وكيف حصلت جريمة القتل والولادة. الانا، المتكررة، تمجيد للمقدس وفرضه بما يتمتع به من قداسة على الدنيوي. وهنا يبرز الاختلاف الكبير بين المقدس والدينوي ولا بد من هذا، لحظة انبثاق هذه الثنائية، وذهب روجيه كايوا الى وجود قطب للمقدس مع الدينوي دونما تمييز اذ يتضاءل تعارضهما ازاءه ويتجه نحو التلاشي، واذا صحّ أن القداسة توجس خيفة من الرجاسة والدينوي، اللذين يمثلان بالنسبة اليها، درجتين مختلفتين من النجاسة، فان في مقدور الرجاسة بالمقابل، أن تلطخ الدينوي والقداسة وتنال من كليهما معاً. بذلك تظهر عناصر العالم الديني الثلاثة: الطاهر والدنيوي والنجس قابلية ملحوظة للتحالف الثنائي ضد العنصر الثالث. لقد رأينا كيف تعمل هذه الجدلية داخل المقدس، وكيف أن كلا الطرفين، بتعارضه مع الآخر، ينشئ بمحاذاة المقدس تلقائياً ذات العدم الفاعل الذي اسمه الدنيوي.
ولم يتوقف روجيه كايوا عن الثنائية الموجودة بين المقدس والدينوي، بين السماوي والترابي والمجال الطهاري في الأول، بل ألح على ضرورة متابعة تحققات المقدس وتمظهراته عبر الطهارة، كذلك تبديات الدنيوي من خلال النجاسة.
ولا بد من عودة الى ما سجلناه، من أجل البحث عن الدينوي الموجود، الحاضر في التجليات الكبرى الخاصة بالمقدس وخصوصاً في تشريعات/ قوننة الام الكبرى لحضورها وهيمنة ذاتها في الحياة والكون وتجليات الخصب الواضح بوصفه يوميا بدئيا، يعني انبثاق اللحظة الأولى لظهور الأم المانحة وقبول الممنوح للوجود أن يظهر قانعاً تبعيته للأم وهذا هو نوع من يومي للمولود الأول والجديد، والمستمر على حركته المضادة للعدم/ الدنيوي كما قال روجيه كايوا. هذه تمظهرات المألوف المستمر والمتوقف قليلاً، لأن زمن المألوف مغاير كلياً عن للا زمن اليومي.
ما قالته الأم عن الانا، تكرار، باقٍ بذاكرة الخطاب الاسطوري، ويستعيده للتعرف على اليومي الخاص بالذات العارفة التي نجحت تماماً في تكوين ظواهر لا تتكون إلّا من خلال خلق وابتكار وتكوين، مثل أنا التي ارتفع.. التي فصلت الأرض عن السماء، أظهرت للنجوم طريقها.. نظمت مسيرة القمر والشمس.. الارتفاع حيازة قدسية، سماوية، وهي في تحققها أوجدت الدنيوي/ الترابي، ولا بد من مكملات حتى يتضح السماوي، من خلال نجومه وحركتها بطريق خاص، هي الأم التي تحكمت بوجود القمر والشمس، لقد عبرت الأم الكبرى على الخلق الجوهري الأول، وهو ابتداء خلق القمر والشمس كما سجلت ذلك الاسطورة السومرية الشهيرة، التي ابتدأت سنن الادخال اليومي بين الالهة، انليل والالهة الأم ننليل، اتصل بها وولدت القمر واتصل ثانية، إنّه اتصال جد ضروري، لأنه مكمل للأول وكانت الشمس، الليل والنهار وبعدها حتماً تنتظم حركتهما بانسجام مقبول. نشوء المخاوف اليومية من النجاسة، لحظة تسامي المقدس، بيومية تكونت منذ البدء واستمرت. وظلت العلاقة بين المقدس والدينوي حاضرة وتعارضهما موجود، انها جدلية المقدس والدينوي والتي كانت وظلت وامتدت من خلال يومي معروف ومألوف. واكد روجيه كايوا على مراقبة تحققات كل منهما، الطهارة عبر احترام المقدس والنجاسة من خلال الدم/ الترابي، وتجاوراً معاً بحركة متواجهه، متعارضة وبينهما جدل، ولا يمكن فك الاشتباك بينهما، وكأنهما حكماً عليهما باليومي، التتابعي الدقيق، الذي لن يكون احدهما بمعزل عن وجود الاخر، لا نستطيع اغفال اليومي في الاسطوري على الرغم من اننا لا نراه بوضوح كاف، لكنه كامن فيها ولن تستطيع ــ الاسطورة ــ البقاء وسط تواصل/ تداول مستمر، اذا افتقدت اليومي، لأن القداسة من ممنوحات اليومي على الرغم من أن اليومي/ هو عدم، تراب، لكنه يكرس حضوره، وتخندقه في الميثولوجيا، حيث العقائد/ الطقوس/ الاساطير. هذا الثالوث مركزه اليومي، ويفقد حضوره، بغياب القبول به هذه الثنائية حركة/ جدل، وجود المجال ونقيضه واليومي هو المؤسس لهما من خلال وضع وترتيب العناصر المكونة لكل منهما. الإنسان هو الذي رسم الحدود بين السماوي والأرضي، الجنة وجهنم. 
عالم البشر، العالم الأرضي، عالم الواقع، عالم المادة، كان وما زال عرضة للرغائب والمكنونات النفسية البشرية. فهو من بين العوالم فوق هذا العالم المعرض للتغيرات، وبما أن المخيلة التي أبدعتها البشرية جعلت فوق هذا العالم عالماً وجعلت تحته عالماً آخر، فلا بد من أن يكون هذا العالم عرضة لغزوات متلاحقة من قبل العالمين الآخرين، عالم القوى العلوية وعالم القوى الجهنمية. إنّه عالم بائس رهين احتياجات الطبيعة. 
شبان اليوم يعتقدون أنّهم يحوزون عقلاً علمانياً بعيداً عن الأسطورة ولو أنّهم نقّبوا في دقائق نفوسهم وافصحوا عن رغباتهم لعرفوا حقيقة الأسطورة ونشأتها وتطورها، وأن الدافع الى العلم لم يكن سوى الأسطورة. 
الوجود منسجم كل الانسجام، أما سلباً كما في العالم السفلي أو ايجاباً كما في العالم السفلي أو ايجابياً كما في العالم العلوي.
يعني تحقق الانسجام في الوجود نوعاً من الاستقرار والرتابة، والمماثلة لما كان قائماً في العالم السماوي/ الالهي، المقدس، والطاهر. وللعالم الأسفل انسجامه الخاص أيضا ومحافظة على ما هو قائم فيه. إنّه حياة خاصة لمستقر الأرواح، وهو بيت الموتى. وتذكرنا الأعمال الأدبيّة برحلة أوديسيسوس الى العالم الآخر، وهي نوع من الرؤيا الأدبيّة، ترسّخت على مرّ العصور وكانت بداية لرسم جغرافية بيت الموتى.