الفنان الإيطالي فرانسيسكو كليمنتي: الفن هو سفرٌ عبر الزمن

ثقافة 2022/06/27
...

  ترجمة: الحسن جمال
    فرانسيسكو كليمنتي فنان إيطالي معاصر، ولد في نابولي – ايطاليا عام 1952، معروف بلوحاته الشبيهة بالأحلام والقائمة على موضوعات باطنيّة تتعلق بالجنس والروحانيّة. من خلال العمل في الرسم الزيتي والتركيب والألوان المائيّة، تتميز أعمال كليمنتي بتجاربها الرسميّة مع الرموز والبورتريه والشكل البشري. 
درس الهندسة المعماريّة في جامعة روما عام 1970 قبل أن ينتقل إلى الهند بعد ذلك بثلاث سنوات. أثناء تواجده في الخارج، تعاون مع الحرفيين والرسامين المحليين، بينما كان يدرس أيضًا النصوص الروحيّة الهندوسيّة. كان لخبرته في صناعة الورق التقليديّة والرسم المصغر تأثير دائم على عمله. بعد الانتقال إلى نيويورك في عام 1981، بدأ كليمنتي في التعاون مع جان ميشيل باسكيات وآندي وارهول وألين جينسبيرج. تم تصنيفها تجربته تلك على أنّها تعبيريّة جديدة خلال الثمانينيات، وتجنّب كليمنتي إلى حدٍّ كبيرٍ التسمية التقييديّة للحركات والأساليب. بحثًا عن منافذ مختلفة لإبداعه، أنتج في عام 1998 نحو 200 عمل أصلي لفيلم المخرج ألفونسو كوارين «الآمال العظيمة». يواصل كليمنتي العيش والعمل في نيويورك، وتعرض أعماله في أهم المتاحف العالمية مثل متحف الفن الحديث في نيويورك، ومعهد الفنون في شيكاغو، ومتحف كونست في بازل، وتيت غاليري في لندن، وغيرها من المتاحف والقاعات الكبرى.
  
* كليمنتي، لقد قلت ذات مرة أن الملل يمكن أن يكون مصدر فكرة جيدة للغاية. أين أخذك الملل مؤخرا؟
 - الملل هو معلمي. أشعر بالملل اليوم كما كان عليه الأمر في أي وقت مضى. لقد أتعبتني حلقات التفكير المقنن، ولم ينتهِ بي المطاف من خلال التخطيط المضني بالوصول الى أي شيء، لكن هناك، في عالم الملل، أشعر بالسعادة ولدي الرغبة في مشاركة سعادتي مع الآخرين من خلال رسمها، تم جرف كل الأنشطة غير الضروريّة، وبقيت مع لوحاتي. لكني أجد أنني لا أعمل أكثر مما اعتدت عليه، فأنا أقوم بقدر العمل الضروري لأقول ما أريد أن أقوله.
 
 * من الواضح أن خيالك النشط هو شيء تطور أثناء نشأتك في نابولي في الخمسينيات من القرن الماضي، حيث قضيت «الكثير من فترات الظهيرة الفارغة».
 - نابولي مدينة وثنيّة. تم بناء كل كنيسة على قمة معبد وثني ويحمل بعض القديسين أساطير وقوى الآلهة الرومانيّة واليونانيّة القديمة. كانت نابولي في شبابي نائمة وخطيرة ويائسة. إن آثار نابولي ليست فقط كبيرة ولكنها مليئة بالغموض - لم يكن هناك ترفيه سوى الضياع في أقبية تحت الأرض، في طقوس كرّسها الخيميائيون والمعالجات القدامى.
 
 * إلى أين تسافر في مخيلتك هذه الأيام؟
 - لا تزال (فاراناسي) المكان الأكثر إرضاءً بالنسبة لي. خطوات حجرية كبيرة على نهر الغانج، عرض لا هوادة فيه لكل جانب من جوانب الحياة البشرية، النساء يغسلن الساري الخاص بهن، يستحم الحجاج، الجثث على محارق الجنازة المحترقة، الأطفال يلعبون الكريكيت، السياح يحدقون، الرجال المقدسون العراة يدخنون الغانجا.. لا شيء مقدس لأن كل الحدود تم كسرها، وفي الوقت نفسه كل شيء مقدس لأنّ كل الحدود محطمة.
 
 * لطالما كان السفر جزءًا مهمًا من حياتك كفنان. هل مشاهدة الفن هو أيضا شكل من أشكال السفر؟
 - صنع الفن هو السفر عبر الزمن! إن إلقاء نظرة على صور الفيوم لمصر الرومانية أو النحت الجنائزي الأتروسكي يعني أن نسأل: بماذا شعر هؤلاء الناس؟ هل يمكنني الشعور مثلهم؟ وإذا شعرت مثلهم، فماذا أفعل بهذا الشعور؟ فقط الأشخاص الذين توقفوا عن الإيمان بالمستقبل يتخيلون أنه ليس لديهم ماض.
 
 * متى كانت آخر مرة نقلك فيها عمل فني إلى مكان مختلف؟
 - لكي يتم نقلك إلى مكان آخر، لا يحتاج المرء للذهاب إلى المتحف. هناك جمال، نوع مهجور من الجمال، على بعد عدة بنايات فقط من المكان الذي أعيش فيه، جميع المتاجر مغلقة تمامًا كما كانت قبل 40 عامًا عندما وصلت إلى وسط مدينة نيويورك ...
 * لقد اقترحت أيضًا أن عملك الفني نفسه يتأثر بالجغرافيا وليس التاريخ. بأية طريقة؟
 - نعم، لقد سافرت إلى أفغانستان مع معلمي أليغيرو بويتي، الذي كان أكبر مني بعشر سنوات. لقد كان عالما يمكنك أن تذهب فيه إلى مكان ما وتضيع فيه. لم يكن هناك الكثير من خطوط الهاتف، بالنسبة للمكالمة الرئيسة، يجب عليك الانتظار لساعات في مكتب البريد، وإذا لم يرد أحد، فقد لا يكون هناك مكتب بريد أو خط هاتف في البلدة التالية! سافرنا على قمة شاحنة فوق مجاري الأنهار إلى بامير، الملاذ الأخير لأسامة بن لادن بعد عقود. لم تكن هناك طرق، ولا فنادق، والقليل من الطعام، والزبيب، والخبز، والشاي الأسود أو الشاي الأخضر. لا يزال هناك كرم الغرباء الذين قدموا دائمًا كل القليل الذي لديهم.
 
 * وكان لهذا تأثير مباشر على فنك؟
 - حسنًا، كان بويتي هناك يطلب تطريزات من النساجين الأفغان، وقد سحرتني العلاقة الديناميكية للسيطرة والمفاجأة في عمله. لذلك قمت بتكرار هذه العملية في وقت لاحق في الهند مع رسامي اللافتات المحلية، الذين يملؤون مخططاتي ويكملون لوحاتي بأقسام من الطلاء الفاتن.
 
 * هل عدت إلى الهند منذ ذلك الحين؟
 - لا يزال لدي علاقة مقربة مع الهند. حتى أنني أطلب من القيمين على وصيتي أن يتم حرق جثتي في فاراناسي، المدينة الواقعة على نهر الغانج. في البنغال، تغني الراويات القبليات أمام اللوحات التي تصور قصص أغانيهن. لقد تخلوا اليوم عن القصص التقليدية وأساطير قبائلهم، فقط يرسمون ويغنون عن الكوارث: 11 سبتمبر، تيتانيك، تسونامي - أتساءل عما إذا كانوا قد انتقلوا الآن إلى الوباء. كما يمكنك أن تتخيل، لدي اهتمام كبير بالتعرف على طرق رسم الخيال القديمة جدًا ورواية القصص مع الحقائق المعاصرة. بطريقة ما أبحث دائمًا عن تلك المسافة، طريقة لرؤيا الحاضر بعيدًا.
 
 * ماذا تقصد بالمسافة؟
 - لأكون رساما كنت بحاجة إلى أن أكون منفيا. أن أكون على طبيعتي بشكل غير مثير للاهتمام. أنا بين حالات الوجود، تعلمت كيف أفكر كفنان.
 * ثم انتقلت إلى نيويورك في الثمانينيات.. ما الذي تعلمته من هذا الوقت الذي قضيته في أميركا؟
 - أنا مغرم جدًا بالهند، لكنني أيضًا مغرم جدًا بنيويورك. نيويورك هي المدينة الوحيدة التي تمكنت من أن تكون «صغيرة»، أو صغيرة مثل البندقية في عصر النهضة وفلورنسا، أو مثل رما الباروك. لتكون قادرًا على رؤية الفنان المفضل لديك، أو الأقل مفضلًا لديك، وهو يمشي عبر الشارع، يجعلك تقف في واقعك، تمامًا كما لو كنت تقابل باستمرار أشخاصًا أكثر ذكاء منك. أو أكثر طموحًا. قدمت لي أميركا سردًا متماسكًا لألعب ضده أو معه أحيانًا. إن الامتثال لأميركا قوة عظيمة. يبدو أن الجميع يتحركون دفعة واحدة في الاتجاه
نفسه.
 
 * لقد قمت أيضًا ببعض الأعمال الرائعة مع فنانين مثل آندي وارهول وجان ميشيل باسكيات - هل قدم هذا التعاون إلهامًا ما لعملك؟
 - أنا شخصياً أحببت باسكيات و وارهول كثيراً. كان وارهول كريما بشكل مدهش منذ أول مرة التقينا فيها، وعمل باسكيات عبر الشارع من الأستوديو الخاص بي. عندما كنا نخرج في الليل، كان علي أن أوقف سيارة أجرة له لأن سيارات الأجرة لن تتوقف من أجله، وهو ما وجدته غريباً. أظهر ذكاء وارهول كيف كان غير متفاعل. كان الجلوس أمامه أشبه بالجلوس أمام مرآة، يرى الجميع شخصًا مختلفًا. لكنني نشأت أيضًا وأنا أقرأ ألين جينسبيرج، وغريغوري كورسو، وروبرت كريلي - وتعاونت مع الثلاثة خلال فترة وجودي في نيويورك. لا توجد فرحة أعظم من مقابلة أبطال سنوات مراهقتك.
 
 * وماذا عن العيش في نيويورك هذه الأيام؟ هل ما زلت مغرمًا بالمدينة كما هو الحال دائمًا؟
 - إذا كنت تحب أشخاصًا ما وتعرضوا للإصابة، فأنت تحبهم أكثر.