بين حصانين

ثقافة 2022/07/01
...

  صالح رحيم
 
يُذكر في إحدى الروايات التي تنقل عن حياة زرادشت، أنه لمّا أرادَ نشرَ تعاليمه، جوبه بالرفض، والاضطهاد، لأنّه كان ينال من الدين ويسب الكهنة، ويقول بتعاليمَ لم يألفها أحد من قبل، تخلى عنه أهله وعشيرته، حتى أنّه يئِس وكاد أن يتخلى عن المهمة التي تجلّت له بعد تأمل طويل بالكون، لكنَّ واحداً من أقاربه القلة الذين آمنوا به، اقترح عليه أن يستقطب من هو أهل لهذه التعاليم، لأنَّ الناس، أغلب الناس، رعاع غير متعلّمين. عملَ زرادشت بهذه النصيحة وأخذ يدعو المتعلّمين، الخلص، ثم ذهب إلى ملك الفرس في عصره "كاتشاسب" دعاه إلى تعاليمه وعرض عليه أن يؤمن بها وبالدين الجديد، فعل الملك وآمن بزرادشت، لكنَّ حقد الكهنة وحسدهم دفعهم إلى تدبير مكيدة للإيقاع بالنبي، فأودع على اثرها السجنَ، وعاد الملك إلى عبادة الآباء والأجداد 
وفي يوم ما، تعرض حصانُ الملك لمرض شديد أوصله الموت، فعجز الأطباء عن علاج الحصان، إلّا زرادشت، فبعد أن سمع، وهو في السجن، عرضَ على الملك علاج الحصان وشفاءه، شرط أن يخرجه من السجن ويسانده في نشر 
تعاليمه. 
وافق الملك، وتعافى الحصان، وفاز زرادشت. كانُ الحصانُ سبباً في نجاة زرادشت، وسبباً في انتشار دينه الجديد. 
 لكنَّ الحصان بالنسبة لفريدريك نيتشه، كان سبباً في حطامه، بعد رؤيته حصاناً يعاني من سياط الحوذي، يعانقه، ويقول له، لا أحد يفهمك غيري، فيودع نيتشه في مصحة عقليَّة إلى آخر حياته. ثمة تشابه رهيب بين الروايتين، فإنْ صحتا، فإنّه تشابه يبعث على الحيرة والقلق من نيتشه كله، ويثير قراءات عدة؛ 
هل كان الحصان نفسه في عوده الأبدي؟ مرةً يُنجي وفي الأخرى يهلك، ونيتشه، هل هو زرادشت في عوده الأبدي، حيث سيخرج من مغارة ما، بواسطة الحصان نفسه، أم أن نيتشه، فعل هذا الأمر كله متعمداً، لكي يوحي بهذه الفكرة؟ أي أنه كان مخادعاً من البداية حتى لحظة جنونه المدعاة، ربما، من يدري؟ لعله أراد بشخصية زرادشت أن يكون هوَ، حتى أن تعاليم الاثنين تتفق إلى حد ما، فالزرادشتيون يملكون مجموعة قيم أخلاقية متينة، وديانتهم، ديانة مسرّة وابتهاج، تحث على الصحة والقوة البدنيّة، وأنّهم يرون الزهد خطيئة كبرى، وإن الانسحاب من العالم كما يفعل الرهبان ما هو إلّا انسحاب من عالم الإله، أليست تعاليمهما تتفق إلى حد كبير؟ ألا يبعث هذا التشابه على البهجة والقلق في الوقت نفسه؟ ألا يثير في نفوسنا خوفاً من العالم ومصيره، ماذا لو كان زرادشت هو نيتشه، والحصان هو الحصان نفسه؟ ربما كان المخادع هو زرادشت نفسه، إذ لا أحد يستطيع أن يثبت أن الرجل الذي ولد في ألماني سنة 1844 وتوفي سنة 1900 هو نيتشه، لا أحد قادر على إثبات أن الرجل الذي ولد سنة 600 قبل الميلاد هو زرادشت، إنَّ 
في الأمر لحيلة لا تخلو من الطرافة، تخيل 
كم هو طريف أن يكون العالم بهذه الصورة؟ وأن تكون كل الأشياء في عود أبدي في الوقت نفسه!.