الدمية وشبيه داستن هوفمان

ثقافة 2022/07/01
...

   مظفر لامي
 
في ردّ للكاتب الصيني جاو اكسينغيان عن سؤال حول الغاية الجوهريَّة من وجود الأدب يقول (كتاب الأدب قادرون على إظهار ما يخفق علماء الاجتماع والفلاسفة في توضيحه. إنّه شكل آخر من المعرفة، ليست علميّة ولا فلسفيّة بل معرفة إحساس وإدراك وخيال. الأدب الحقيقي هو ما أسميه بالأدب البارد، إدلاء بشهادة وليس منتجا ثقافيا يطرح للسوق). 
هذه الخلاصة التي نجد مقاربات لها عند بعض الكتاب ذوي التجارب المهمة وإن بعبارات مختلفة تضع أهمية لعنصر الاستقصاء الذي يصفه الكاتب جاو بالبارد، أي أن عمق الاشتغال المعرفي والجمالي يضع بالضرورة معيارا جوهريا لمسار الخلق الفني يستبعد فيه كل ما من شأنه أن يسدل ستارة من واقع ما تحجب أبعادا مترامية خلفها. 
قراءتي المتأخرة للمجموعة القصصية المعنونة (وطن عيار 7.62 ملم) لمحمد الكاظم وضعتني أمام هذه البديهة المنشودة التي عزّ حضورها في مختلف نتاجاتنا الأدبية في القصة والرواية والمسرح. ربما لأن قصص المجموعة الثمانية التي أتت بجودة متميزة في الصنعة كانت أمينة بتطرف لرؤيا واحدة حرة في أدواتها لكنها مطيعة في نهجها لأسّ ضاغط يبدو مهولا في وقائعه لكنه بلون واحد تتناوب فيه درجات من العتمة.
مثل حاملي الكاميرات المحمولة في الأفلام الوثائقية الذين يستهدفون إماطة اللثام عن حقب وبؤر الحروب والمحن دار بنا الكاظم في فترة مريرة من تاريخ العراق مستعيرا بعض تمظهراتها كخامة نسج عليها حكايات تعكس وجهة نظر حادة في اختيار عيناتها وفي رسم خطوط محددة ودقيقة تتحرك فيها شخصياتها. وهذا المزاج في الكتابة قد يفلت أحيانا من قيد وجهته حين يكون الباعث الأول للموضوعة ذا طابع مركب وإشكالي ينفتح على رؤى رحبة لكنه ينكفئ أحياناً أخرى مطيعا صرامة الخطاب الموجه حين يكون السارد متماهيا مع تسويغاته الذاتية التي قد تجد صدىً مماثلا عند شريحة واسعة من القراء. 
في القصة الأولى من المجموعة المعنونة (البحر كويس يا ريس لكن شمخي انتحر) ننجذب للدمية (شمخي) من بين جميع الشخصيات الأخرى التي لا تقل عنه مساحةً، فيبدو لنا مغايراً، يسافر لبلدان بعيدة وهو منسي في ركن ما من المنزل، يرسل صوراً من رحلاته لا يظهر فيها، يثير ريبة موظف الجمارك بسبب هيئته الغريبة، وجوده كصنوٍ راعٍ وموجِه ومستودع أماني وأحلام بالسفر. تتحفز مجسات القارئ لهذا المسافر المخبأ في حقيبة منتظرة الاستثناء الذي سيعادل كفة الجزء المتبقي من خارطة القصة المحمل بعقباته ومرارة حكايته وسخط أوصافه، لكن شمخي المكلف سلفاً بالإذعان لمسوّغ  حضوره، ينسل من يد صاحبة ليهوي نحو لجة البحر مؤدياً دورا احتجاجيا بانتحاره. 
في قصة 12 September يمثل شبيه داستن هوفمان طرفي لعبة الإيهام التي تجترّ خلالها الشخصية الرئيسة ضنكها وتأزمها قبل أن تتلقى خاتمتها المخيبة. ولأن بداية ونهاية هذه الاحتمالية الساخرة التي تبنى عليها القصة كانت معلومة للكاتب أو في أقل تقدير متوقعة له، انتقل اشتغاله للكيفية التي سيقدم بها المسوغات التي ستخدم في تضافرها الوقع الذي سيحدثه كشف حقيقة هذا الشبيه. إذ تأتي المشاهدات البصرية لمكان الحدث، وهو عمان بعد أيام من حادثة ضرب برجي التجارة في نيويورك، في تدافع تصاعدي معزّز بشحنة حانقة تتكرّر خلالها عبارة (لم يتغير شيء)، تبعتها رسائل لعراقيين انقطعت بهم السبل في بلدان مختلفة يروون فيها المصاعب التي تواجه مسعاهم في الحصول على الإقامة، حتى نصل لنداء سائق السيارة (بغداد.. بالتكسي بغداد) الذي يستعمل بتكرار متزامن مع قائمة ساخرة طويلة من الفرص المفترضة في أميركا كنقيضين تستلب الشخصية وتتشظى بين تضادهما. 
تناول هاتين القصتين من المجموعة بالطبع لا يقدم إحاطة وافية لها لكن ربما يشير للرؤيا المهيمنة في قصصها والتي تبنت عرض مشهدية مكثفة ومن زوايا عديدة بهدف تقديم مادة يكون المتلقي إزائها مستقبلا لشحنة صادمة وليس امتدادا متسائلاً ومفكراً. ونحن إذ نسلم بالأغراض المختلفة في التناول التي تسحب عنوة لقسوة الواقع في حقبة ما تلبية لانفعال صادق يتشارك فيه الكاتب والقارئ، لا بدّ لنا من استحضار الأعمال التي كان الصوت المتواري فيها متأملا يتلمس طريقا شائكاً تختبر فيه الشخصيات مكاشفاتها الذاتية والجمعية كي تستعيد توازنها، ولم تكن تلك النتاجات المتفردة ترفا متعالياً بل ضرورة ملحة تمثلت الأزمنة المتردية برؤيا مختلفة.