الشاعر في لعبة الحلم

ثقافة 2022/07/04
...

 حميد المختار
 
(الفنّان يتجلّى في الحالات الاستثنائيَّة، التي هي كلها وثيقة الصلة بالظّواهر المَرَضِيّة أو التي تُؤَلّف معها عنصراً واحداً بنوع متفرّد، في ما يبدو لي أنه يستحيل على المرء أنْ يكون فناناً من دون أنْ يكون مريضاً) نيتشه. 
أذكر جيداً صديقي الشاعر وهو يصرخ في المقهى مُعلناً انقطاعه عن قراءة الشِّعر وإقصاء الشعراء والانغماس بالهَم السياسي الرافض لهيمنة الحزب الواحد في الأنظمة الدكتاتوريَّة، وصار يفتح فراغاً في حياته التي خلت من الهَم الإبداعي وهي تحمل هموم العالم أجمع، فتَحوّل صُراخه إلى رموز كثيرة توصّل للآخر أنه المسيح المصلوب على أرصفة بغداد بعد أنْ خرج من المعتقلات المظلمة بجسد هشّ لا يقوى حتى على المَسير إلّا بعكّازتين وفِكْر مشوّش يحمي ذاته بالرّفض لكل ما هو عقلاني في هيأة رجل أمن أو شرطة أو حتى مثقف سلطوي، لذلك أصبح جنونه انقطاعاً عن كِتابَته للشِّعر.
ذات يوم حين رآني في المقهى حيّاني بحرارة وبعد أنْ شَرِب شايَه أخذني إلى زاوية معزولة وبدأ يقصُّ عليَّ أطرافاً من المؤامرة الكونيَّة التي اشتركت فيها قُوى الأرض والسماء لتَقود العراق إلى حالة من الجنون والموت، كان يعتقد أنّ ما يقوله هي أفكار رؤيويَّة قابلة للتحقق في وقت قريب جداً، ثم دخل في مونولوج طويل عن رحلته في ظُلمات الاعتقال ووهم الموت، وصار يَخْلط تلك الحقائق بمقاطع من أشعاره السوداويَّة، إنَّه يحاول أنْ يغيِّر ما يحدث في العالم من إرباك واضطراب وجنون في شؤونه كافة، حين ذاك وبعد أنْ تَعِب من هذيانه الطويل صَمَتَ ولم يلتفت إليّ وعاد ثانية إلى رؤاه الداخليَّة ليغترف من مَعينَه السرّي ما  يُجابه به آخرين غيري، أمّا أنا فلم أَعُد موجوداً أمامه لأنّه دخل في عالم آخر تماماً وصار يتحدث مع أُناس وهميين، إنّها لعبة الحلم كما جاءت في استنتاجات (أناييس نين) لأنَّ حالة صديقي الشاعر ليست غريبة أو حتى جديدة، إنّها حالة من حالات جنون الإبداع مرَّ بها الكثير من مُثقّفي العالم، وعلى الرغم من إدراك صديقي بأنه في حالة عقليَّة سيئة لكنَّه أبداً لم يتنازل عن بُرج أشعاره العالي وظل معتقداً أنه يُمارِس كتابة الشِّعر، لهذا أقول إنّها لعبة الحلم، ففي رصد رائع لهذه الحالة تقول (أناييس نين): لقد رفض (ريلكة) التحليل النفسي إذ خاف أنْ يُشفيه من الشعر ورفضه (كافكا) فظل حبيساً في عالم ضيق من الكوابيس وقَبِلَهُ (هرمان هيسه) فاتسع خياله، فالخوف لا يحفظنا إلّا من الأعماق، وهناك مَنْ رأى كيف تَنشطر شخصيَّة الحالِم إلى شخصيات متعدّدة ظاهرة الاختلاف، وفي الوقت ذاته خاف صديقي الشاعر على إبداعه من صحوة العقل وعودة المنطق إلى السيادة، فَفضّل سرَحانه وهذيانه وفوضاه الداخليَّة على أنْ يعود ثانية إلى سلطة العقل ورجحانه، لكنَّه بالنتيجة لم يُدرك أنّ ذلك سيقوده إلى الانقطاع عن الكتابة والابتعاد عن الشِّعر، إنّ جنون صديقي الشاعر بالدِّقة هو غياب عن الشعر وحضور مُكَرّر لذلك الغياب الذي فراغه المركزي هو مُختبَر ومدروس في كل أبعاده اللانهائية، والمعضلة التي طرَحَتها هذه الحالة هي:
هل هو جنون أم إبداع؟
إلهام أم هذيان؟
ثرثرة تلقائية للكلمات أم منابع لغة خاصة؟
هذه تساؤلات تقف حائرة أمام نتاج إبداع هؤلاء المبدعين الذين دخلوا أقفاص لغاتهم المُقفَلة التي رحَّلَت العقول إلى شواطئ بعيدة وصارت تبحث عن اللحظة التي يُولد فيها عملهم الإبداعي والجنون معاً كتوأمين متلازمين لا ينفكان أبداً ليُحقّقا بداية الزمن الذي يَجِد فيه الجنون نفسه ويجد فيه المبدع ذاته مُتّهَماً مِنْ قِبَل العمل ذاته، فيكون مسؤولاً أمامه عن هويته ومعناه، إنّه بمعنى آخر انتصار للجنون بتعبير (فوكو) وهو ما دفع صديقي الشاعر ورِفاقه وغيرهم الكثير إلى أنْ يَضعوا ذواتهم مقياساً لجميع الأشياء، وأنْ يكونوا مركز العالم ومفتاح البدايات وأبواب الوجود وخُلاصة الأسرار ولحظات التّجَلّي لأرباب الشعر وملائكته وشواطئ الحكمة وحكمة الشهود ولعنة الشعر وغضب الأجيال، إنّهم ربابنة أفذاذ سيقودون العالم ذات يوم إلى عوالم بديلة حالمة بعيدة ومَقصِيّة عبر دروب الأساطير الموغلة في الخيال والأحلام وعبر اللاشعور الذي يجمع التجربة الصافية وردود الأفعال والانطباعات والحدوس والصور والذكريات.