جلجامش بين جارودي وأدونيس

ثقافة 2022/07/05
...

 ناجح المعموري
ما زالت ملحمة جلجامش تثير اهتمام الأدباء والمثقفين والفنانين وتحولت الى ملهم لهم في إنجاز أعمال إبداعيَّة كثيرة، وظل هذا النص الأدبي الذي تعامل معه العالم بوصفه أصلا أدبياً أسبق بكثير من الملاحم والأساطير التي أنتجتها بلدان الشرق القديم؛ لذا يمكن التعامل مع ملحمة جلجامش بوصفها أول نص أدبي في بلاد الرافدين وقدم أسئلة حياتيّة وكونيّة انشغل بها الإنسان القديم.
 
 ومثلما قال المفكر المعروف جارودي بأنَّ الأسئلة الكبرى التي واجهت الإنسان في بلاد الرافدين قدمتها ملحمته الشهيرة والمعروفة لنا نحن في الغرب، والأسئلة الجوهريَّة حول الحياة والموت وصلت لنا من الشرق الذي لولاه لما كان الغرب موجوداً. وعلينا الاعتراف بأن حضارتنا جاءت إلينا من آسيا وأفريقيا، والمقصود بآسيا هي بلاد الشرق الأدنى القديم وأفريقيا هي مصر ومجاوراتها الأساسيَّة.
وبلغ الاهتمام الغربي بملحمة جلجامش حدّاً ممتازاً في الدراسة والبحث والاستثمار وأشار لي الصديق د. نائل حنون بأنَّ عدد البحوث والدراسات الرصينة بلغت في عام 1975: 275 بحثاً ودراسة في العالم، وعلينا أن نتصور العدد الكلي بعد ما يقارب 35 سنة. من هنا أريد الإشارة الى أهمية هذا النص وجديته ومجالاته الثقافيّة والفكريّة التي انتبه لها الإنسان الآخر بوقت متأخر. ولكن الآخر لا يريد الاعتراف بالشرق بوصفه رائداً نجده قد قدم قراءة لأصوله الفكريّة والأدبيّة فيها شيء من التظليل والتكتم، ومثل هذا كثير وخصوصاً عن ملحمة جلجامش حيث كثيراً ما أكد موضوع الملحمة هو ثنائيّة الحياة والموت، وهي ثنائيّة تقليديّة عرفتها الكثير من الشعوب والقبائل. وتعد هذه الثنائيّة أول الدروس التي تعلمها الإنسان في بداية حياته، وتمحور الملحمة لم يكن كذلك وإنّما كان حول صراع الأنظمة الثقافيّة/ الدينيّة في العراق القديم. وشاع الخطأ الذي صدره لنا الآخر وتسيّد في دراسات عربيّة وعراقيّة مع شديد الأسف. ويبدو لي بأن الاهتمام بالملحمة في الغرب وترجمتها على نطاق واسع، تعبير واضح عن اعتراف الآخر بأهمية الحضارة الشرقيّة/ العراقيّة وبالإمكان التعاطي معها بوصفها مفتاحاً مركزياً ـ مع نصوص الملاحم وأساطير ـ بفهم ووعي كان عليه الإنسان العراقي والتطور الذي وصل إليه في وقت كان فيه الغرب غير موجود. وما لفت انتباهي مؤخراً قراءة المفكر جارودي والشاعر أدونيس للملحمة والآخر عادي وبسيط بالنسبة لهما، لأنَّ جارودي مهتم بالفكر الشرقي ومنشغل بحوار الحضارات، ولا بد عليه من الاطلاع على الأصول الأولى في مجال الأدب والفنون، أما أدونيس فهو شاعر وباحث ومفكر وضرورات مشاريعه تستدعي منه الاهتمام بها، لكني أجد في هذا الاهتمام سرعة على الرغم من أن جارودي قدم لنا آراء مهمة في المجال الفكري واعتبر الملحمة بؤرة الفكر في العالم وهي النص الأول المتضمن أسئلة جوهريّة ما زالت شاغلة الإنسان حتى هذه اللحظة ومما قاله جارودي، إذا رفضنا اعتبار [الغرب] ماهية جغرافية ونظرنا إليه باعتباره حالة فكرية متجهة نحو السيطرة على الطبيعة والناس، وجدنا أن مثل هذه النظرة الى العالم ترقى إلى الحضارة الأولى المعروفة، تلك الحضارة التي ظهرت في دلتا دجلة والفرات وهي عراق اليوم.. إن مولد حضارتنا المتميزة بإرادة السيطرة والنفوذ، تجد تعبيرها الأدبي في ملحمة جلجامش وقد سبقت الإلياذة بألف وخمسمئة عام.. هناك ارتفع الستار عن أول فصل من تاريخنا. وهذه الملحمة الأولى تجري في «أور» و «أوروك» وقد سيطر الإنسان على الطبيعة وقاتل أقرانه وسعى إلى اقتحام حدوده الخاصة ومجابهة الآلهة وتحدي الموت،/ جارودي/ حوار الحضارات/ تر: د.عادل العوا/ دار عويدات/ بيروت/ 1986/ ص81. 
توصل جارودي إلى أن ملحمة جلجامش كشاف عن الصراع بين البداوة والحضر، لكن المواجهة تحولت لاحقاً إلى صداقة بين جلجامش وأنكيدو، مثلما أشار إلى أن الملحمة أضاءت لآفاق الطبيعة التي عاشها الملك التي دفعت به للمخاطر ومواجهة الشر في أكثر من مكان، لقد كان ذلك قبل أربعة آلاف سنة سبقت يسوع المسيح. ولقد ولد فاوست لاحقاً. هذا ما قاله جارودي في تأسيسات الملحمة التي هي أصل ثقافتنا ـ كما قال جارودي، التي كان أول ازدهارها ماثلاً في الفلسفة الأغريقيّة التي ولدت في آسيا الصغرى، فكل الفلاسفة  قبل سقراط حملوا الطابع
الآسيوي.
أجرى الأستاذ محمد عبد الله حواراً مع الشاعر أدونيس نشرته جريدة السفير البيروتية يوم 29/ 10/ 1978 وكان سؤاله الأول عن صدور ديوان بدوي الجبل الذي اعتبره أكبر شاعر كلاسيكي وواحدا من كبار شعراء العربيّة في مختلف عصورها وأضاف أدونيس قائلاً: كل شعر عظيم هو في آنٍ كلاسيكي وحديث، أي أنّه شعر لا يستنفد، امرؤ القيس، أبو نؤاس، أبو تمام، هؤلاء شعراء حديثون. جلجامش، هوميروس، سوفوكليس، شكسبير، هؤلاء حديثون أيضاً وأكد على أن الكلاسيكية مجموعة من الخصائص نصف بها شعراً ما. فالكلاسيكية والحداثة صفتان لاحقتان. أي أنّهما تقومان بالشعر، ولا يقوم الشعر بهما. هناك نتاج شعري يحقق بعض الخصائص الكلاسيكية. ويمكن وصفه بأنه كلاسيكي. لكن هذا لا يتضمن كونه بالضرورة شعراً عظيماً. وهناك نتاج شعري يحقق بعض خصائص الحداثة، ويمكن وصفه تبعاً لذلك، بأنه حديث لكن هذا أيضاً لا يتضمن كونه بالضرورة شعراً عظيماً، أدونيس الحوارات الكاملة ـ 1960 ـ 1980 / دار بدايات للطباعة والنشر / بيروت / 2005 / ص149.
لقد وجدت ضرورة لاستكمال جواب أدونيس عن الحداثة والكلاسيكية للتأكيد على أن أدونيس في إشارته للأسماء الشعرية العربية الكلاسيكية بأنهم شعراء حديثون، وكذلك اعتبر هوميروس/ سوفوكليس/ شكسبير/ جلجامش بأنّهم شعراء حديثون أيضاً. ويكشف لنا هذا الحوار والرأي الطويل بأنَّ أدونيس تعامل مع كل الأسماء المذكورة بوصفهم شعراء وسؤالي ما الذي جعل جلجامش شاعراً واختار له أدونيس موقعاً بين الأسماء الكلاسيكية المعروفة، وجلجامش مثلما هو معروف لنا الملك الرابع الذي حكم مدينة أوروك، وكتب شعراء سومر عن خمس أساطير معروفة، صاغت لاحقا البنية الذهنية الأكدية عملاً ملحميّاً، لا أعتقد بأنَّ مثقفاً وقارئاً لا يعرفه، ولا أدري كيف تحول السياسي جلجامش إلى شاعر. 
لا يمكن أن نتعامل مع ما وقع به الشاعر والمفكر أدونيس سهواً. إنه خطأ كبير وهل  من السهل عليه أن يقع بمثل هذا الإشكال؟ وأدونيس معروف بثقافته الموسوعية وتنوعاتها الكثيرة. وأعتقد بأن ما وقع به كل من جارودي وأدونيس خطأ جوهري وهو يمثل أنموذجاً لهفوة الأستاذ لا بل سقطته وأظن بأنه ناجم عنه الخوف من جلجامش/ الشرق.  قدّم جارودي قراءة عالية جداً للعلاقة بين الغرب والشرق، وكيف كان الشرق درساً مهماً في ثقافة وتكونات الغرب، حتى الفلسفيّة «وأن ما اصطلح الباحثون على تسميته باسم الغرب إنّما ولد في ما بين النهرين، وفي مصر، أي في آسيا وأفريقيا.. وثمة ينبوع آخر لحضارتنا نجد جذوره تتزاوج بين فينيقيّة وكريت ومصر. لقد كان الفلاسفة والمؤرخون اليونان يعجبون بمصر إعجاباً عظيماً. وتدين بأن إفلاطون الثنائية لها بالشيء الكثير». وعلى الرغم من قراءته هذه أعتقد بأن الخوف كامن في الأعماق ومارس ضغطاً نفسياً على جارودي وانحرف به أو هناك سبب آخر متأتٍ من سرعة القراءة والاطلاع على نص الملحمة أو اللجوء للاجتزاء منها، وهما أوقعاه بهذه الاشكالية التي وقع بها عدد كبير من الشعراء العرب والأدباء في تعاطيهم مع الأساطير العراقية أو حواراتهم عنها. ولهم بذلك العذر، لكن المفكر جارودي المطلع على ثقافة وتراث الشرق بشكل ممتاز جعل من الخطأ الذي وقع فيه صارخاً، لأنه لا يعرف المدينة التي وقعت فيها أحداث الملحمة وهو غير متأكد منها، لذا جعلها أور وأوروك والأكثر إثارة إشكالية الخلط بين جلجامش وآشور بانيبال، ذكره جلجامش وقدم له تعريفاً صحيحاً، لكنه في مكان آخر قال بأن الملحمة كتبت عن الملك آشور بانيبال بينما هي اكتشفت في مكتبته.
هذا ما وقفت عليه أثناء قراءاتي وكنت من قبل قد تجاهلت سقطات الكثير من الشعراء والأدباء والفنانين والأكاديميين والنقاد في تعاملهم مع الآلهة وخصائصها ووظائفها وأيضاً مع المجالات الحضارية الخاصة بالتاريخ العراقي القديم. لكني وجدت في خطأ جارودي وأدونيس شيئاً مثيراً وعلينا أن نقف طويلاً عندما نقرأ للذين تعاملنا معهم منذ زمن ثقافي
بعيد.