الذكرى الستون لاستقلال الجزائر: ذاكرة شعب ومبادئ راسخة من رسالة الشهداء

الرياضة 2022/07/05
...

•  محمودي بلقاسم 
السفير الجزائري 
تستعد الجزائر هذه الأيام للاحتفال بالذكرى الستين لاسترجاع السيادة الوطنيَّة وهي تعيش مرحلة جديدة تطبعها إصلاحات مهمة في المجالات السياسيَّة والاقتصادية والاجتماعية داخلياً، وتسعى خارجياً للتعامل بجدية وحزم مع التحديات الدولية والإقليمية الراهنة والمستقبلية في عالم يشهد تغيرات عميقة وسريعة. تحيي الجزائر هذه الأيام الذكرى الستين لاستقلالها الوطني الذي يوافق يوم الخامس من شهر يوليو وكلها عزم على مواصلة عملية البناء والتشييد الوطني ولعب الدور المنوط بها إقليمياً ودولياً بوصفها قوة إقليمية تضمن الاستقرار والسلم في المنطقة.
 
لقد عرفت الجزائر استعماراً استيطانياً هو الأبشع في تاريخ البشرية، استمر لقرن واثنين وثلاثين سنة (1830 - 1962) عانى الشعب من ويلاته وتعرّض إلى جرائم وحشية من قمع واعتقال وقتل وتهجير وسَلب لممتلكاته، وسخّر المحتل الفرنسي منذ أن وطئت أقدامه أرض الجزائر كلّ ما بوسعه من الوسائل لطمس الهوية الجزائرية. ولكن ظَلَّ الشعب الجزائري صامداً ولم يستسلم للأمر الواقع وواجه الغزو الفرنسي من خلال مقاومة شعبية متواصلة لأكثر من سبعين سنة تحت قيادة أبنائه الأشاوس بقيادة الأمير عبد القادر في الغرب الجزائري والباي أحمد في شرقه وفي كل ربوع الوطن على غرار مقاومة المقراني والزعاطشة وبوعمامة والتوراق و(لالة فاطمة نسومر) وأصرَّ على الحفاظ على ثقافته ولغته وتقاليده بالرغم من ثقل التضحيات والمعاناة، وكان لنهاية الحرب العالمية الأولى وقع على الشعب الجزائري التوّاق للحرية حيث كثف من نشاطه السياسي لانتزاع الحرية والاستقلال كسائر شعوب العالم وبادر أبناؤه لتأسيس أحزاب ومنظمات وجمعيات وطنية في إطار ما يعرف بالحركة الوطنية بمختلف توجهاتها، مطالبة بالاعتراف واحترام الهوية الوطنية وتمكين الجزائريين من حقوقهم السياسية والمدنية.
إنَّ مجازر 8 أيار 1945 التي ارتكبتها السلطات الاستعمارية في حقّ الشعب الجزائري والتي راح ضحيتها 45 ألف مواطن جزائري، رسخت قناعة لدى قيادات الحركة الوطنية أنَّ ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة وهي اللغة الوحيدة التي يفهمها المحتل ومنذ تلك اللحظة بدأ التحضير والاستعداد للثورة المسلحة وكُلّلت هذه المجهودات ببيان أول نوفمبر إيذاناً باندلاع الثورة التحريرية المجيدة في الفاتح من شهر تشرين الثاني من العام 1954 تحت قيادة جبهة التحرير وجيش التحرير الوطنيين، والتي كان من أهدافها الأساسية استعادة السيادة الوطنية كاملة غير منقوصة والاستقلال الوطني. ومنذ الإعلان عن انطلاق الثورة التحريرية بدأ حشد الدعم السياسي والدبلوماسي والمادي لها ونجحت قيادة الثورة في كسب اعتراف العديد من الدول الشقيقة والصديقة بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية وبحق الشعب الجزائري في تقرير مصيره. وكان العراق الشقيق من أول الدول والشعوب التي احتضنت الثورة الجزائرية بفتح مكتب لجبهة التحرير الوطني ببغداد ومَد كل أشكال المساندة والتضامن للشعب الجزائري في كفاحه ضد الاستعمار الفرنسي الغاشم، كما كان العراق من أول الدول التي اعترفت بالحكومة الجزائرية المؤقتة فضلاً عن المساهمة القيمة في عملية البناء والتشييد بعد الاستقلال من خلال البعثات الطبية والمهنية والتعليمية التي ساهمت في تكوين الإطارات الأولى للجزائر المستقلة.
وبعد كفاح بطولي دام سبع سنوات ونصف السنة ضدّ أعتى القوات العالمية المدعومة من حلف الشمال الأطلسي وبعد تضحيات جِسَام استعادت الجزائر سيادتها الكاملة وأعلنت استقلالها في الخامس من شهر يوليو العام 1962. وغداة الاستقلال باشرت الجزائر مرحلة البناء الوطني لاستكمال سيادتها بتحقيق التنمية الشاملة ومحو مخلفات الاستعمار وتلبية طموحات الشعب الجزائري بعد عقود من الحرمان جراء السياسات العنصرية للاستعمار الغاشم, ووفاءً لرصيدها التاريخي في مقاومة الاحتلال الفرنسي الظالم، وظفت الجزائر ثقلها الثوري ودبلوماسيتها في الدفاع عن القضايا العادلة في المحافل الدولية والإقليمية وعلى رأسها القضية الفلسطينية, وقدّمت مختلف أنواع الدعم والمساندة للحركات التحررية عبر العالم وكانت الجزائر قِبلَة الثوار والأحرار وكان لها الفضل في حصول العديد من الدول التي كانت تحت وطأة الاستعمار على استقلالها عبر تمكينها من حقها في تقرير المصير كما لعبت الجزائر دوراً محورياً في الإدانة والقضاء على نظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا، وعُرِفَ عن الجزائر نضالها المستميت من أجل إقامة نظام دولي اقتصادي جديد عادل ومتوازن في حق الشعوب باستغلال ثرواتها  الطبيعية.
أما بخصوص القضية الفلسطينية فهي ركن ومبدأ صلب في السياسة الخارجية للجزائر بل أصبحت أم القضايا، وما زالت الجزائر تقدم كلّ أنواع الدعم إلى غاية تحرير آخر مستعمرة في أفريقيا ولن يهدأ بالها حتى يَستَرد الشعب الصحراوي الشقيق حقه المسلوب ويخرج من براثن الاحتلال المُر.
واحتراماً لسيادة الدول الأخرى فإنَّ الجزائر حرصت على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، إذ أصبح ثابتة من ثوابت سياستها الخارجية ولم تَحِد عنه بالرغم من كل الظروف. كما تدافع الجزائر في كل المناسبات عن ضرورة اللجوء إلى الطرق السلمية في حل النزاعات واحترام الشرعية والقانون الدوليين. وفي السنوات الأخيرة ما فتئت الجزائر تلفت انتباه المجتمع الدولي إلى خطورة الإرهاب وطبيعته العابرة للحدود انطلاقاً من جهودها المُضنية وتجربتها الطويلة في محاربته خاصة على المستوى الفكري من خلال إصلاحات عميقة في المنظومة التربوية وسعيها للتصدي للجريمة المنظمة وشبكات الإتجار بالسلاح والمخدرات والبشر، إضافة إلى مرافعتها للحد من الأزمات البيئية الناجمة عن التَغيّر المناخي والعمل على بلوغ أهداف التنمية المستدامة، ناهيك عن مساعيها في ترقية ثقافة السلم والحوار وقيم التسامح والتعايش السلمي ونبذ العنف والكراهية، حيث كرست هيئة الأمم المتحدة وبمبادرة من الجزائر يوم 16 أيار من كل عام يوماً عالمياً للعيش معاً بسلام.
إنَّ الذكرى الستينية لاستقلال الجزائر تأتي في ظرف استثنائي، فعلى المستوى الداخلي تشهد البلاد نقلة نوعية في كل المجالات، وتأتي في مقدمتها مبادرة رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون لِلَمِّ الشمل وتقوية الجبهة الداخلية لمواجهة التهديدات مهما كان نوعها أو مصدرها وفي الشق الاقتصادي العمل على تنويع صادراتها وتحفيز الاستثمار بتقديم تسهيلات واسعة وضمانات من شأنها إعطاء دفع جديد لجلب استثمارات وطنية وأجنبية جديدة لإنعاش الاقتصاد الوطني، تضمنها قانون الاستثمار الجديد. كما أنَّ السلطات الجزائرية العليا حريصة على تحسين مستوى المعيشة والقدرة الشرائية لفئات واسعة من المجتمع الجزائري عبر وضع برنامج دعم اجتماعي طموح من خلال التحويلات الاجتماعية المعتبرة، حيث ولأول مرة منذ الاستقلال تم تخصيص منحة للعاطلين عن العمل مع إعطاء أولوية لقطاع السكن لإنجاز آلاف الوحدات السكنية بمختلف الصيغ وتشجيع فئة الشباب على الاندماج في سوق العمل من خلال مرافقتهم في إنشاء مؤسسات صغيرة ومتوسطة.
كما تتزامن هذه الاحتفاليات مع احتضان الجزائر للنسخة التاسعة عشرة من ألعاب البحر الأبيض المتوسط "وهران 2022 " بمشاركة 3600 رياضي من 26 دولة، حيث سخرت السلطات الجزائرية كل الإمكانيات البشرية والمادية لإنجاح هذا الحدث الرياضي الهام، الذي يسهم في ترسيخ ثقافة السلم والتعايش بين شعوب البحر الأبيض المتوسط. هذا وتعتزم الجزائر استضافة القمة المقبلة لجامعة الدول العربية في الفاتح من تشرين الثاني المقبل الذي يصادف ذكرى اندلاع الثورة التحريرية الجزائرية المجيدة، قمة يعول عليها كثيراً لترتيب البيت وَلَم الشمل العربي لمجابهة التحديات المختلفة التي تواجه وطننا العربي.
وبهذه المناسبة السعيدة، ستنظم سفارة الجزائر ببغداد وعلى شرف أعضاء الجالية الوطنية المقيمة في العراق احتفالية متنوعة لإحياء هذه الذكرى الغالية لتوطيد صلتهم بالبلد الأم وغرس القيم الوطنية النبيلة في نفوس الشباب والأجيال الصاعدة خاصة وحثهم على الحفاظ على رسالة الشهداء والاعتزاز بتأريخهم وانتمائهم إلى ثورة المليون ونصف المليون شهيد.