المكتبة العصريَّة في العِمارة.. ذاكرة المدينة وأيقونة الكتاب

ثقافة 2022/07/06
...

 نصير الشيخ
هناك أماكن تترك في الذاكرة رائحة تظل منبعثة، والمكان هنا يخرج من كونه حيّزاً هندسيّاً إلى ما يشكل فضاءات أبعد، ليصبح قصة وطعماً وذكرى.. ومن ثم أثراً. والمكتبة هذا الكون الضاج بأرواح وأنفاس وتجارب ثرّة لكتاب وأدباء ومفكرين وفلاسفة، كلهم يجتمعون في لحظة خشوع على أرفف المكتبة بانتظار من يقتني ذلك الكتاب، ويبتاع تلك المجلة، أو يشتري هذه الجريدة «الصحيفة» مطلعاً على أخبار العالم.
والمكتبة العصريَّة في مدينة العِمارة أسّست بتاريخ
(5 - 10 - 1929)، ومؤسسها الراحل عبد الرحيم الرحماني فرعاً عن المكتبة العصريَّة الرئيس في بغداد، والتي تأسّست عام 1914 من قبل “محمود حلمي”، ثم آلت إدارتها في بغداد إلى صادق القاموسي. وتعد المكتبة العصريَّة في ميسان ومنذ تأسيسها وحتى الآن المكتبة الأم، وهي الأقدم في محافظات الجنوب، توازيها في القدم المكتبة الأهليَّة التي تأسست في البصرة. واستمرت المكتبة العصريَّة بإدارة عبد الرحيم الرحماني وبمعية حيدر حسين، كعامل في المكتبة وبائع للصحف آنذاك، لحين استقرار الرحماني في بغداد عام 1964، حيث آلت إدارة المكتبة إلى السيد “حيدر حسين”.التقينا بالكُتبي سعد حيدر حسين ودار بيننا هذا الحديث، والذي تحدث فيه بدلا عن أبيه الحاج حيدر حسين، الذي يمرّ بوضع صحي يمنعه من التواجد في المكتبة. إذ قال: هناك مكتبات عاصرت المكتبة العصريَّة، وتركزت في سوق العمارة تحديداً، شارع التربيَّة الآن والذي كان يسمى سابقاً “شارع المعارف” فهناك مكتبة “النجاح” لصاحبها الشيخ ميرزا الأنصاري التي افتتحت عام 1941، ومكتبة “الغد” للأخوين شاكر وإبراهيم الهاشمي، ومكتبة “الأهالي” للسيد قاسم جاسم، ومكتبة “الزبيدي” للسيد غالب الزبيدي، وكذلك مكتبة بغداد.. لكن هذه المكتبات لم تصمد لظروف عديدة وأولها تحولات السوق نحو استيراد القرطاسيَّة وقلة الإقبال على اقتناء الكتب وشرائها. كانت ملحقة بالمكتبة العصريَّة “مطبعة صغيرة” وهي مطبعة حجريَّة قديمة سُمّيت في وقتها بـ “المطبعة الرحمانيَّة”؛ لذا كانت اليافطة الرئيسة للمكتبة تقرأ “المكتبة العصريَّة والمكتبة الرحمانيَّة”، ثم قلّ عمل المطبعة لكونها من طراز قديم يعتمد صف الحروف الرصاص، ورصفها باليد، وبحجم “12، 14” لطبعها. وكانت تنتج طباعيَّا “كارتات الأعراس” و “وصولات تجاريَّة” للمحال المجاورة، و “أكياس ورقيَّة”. وظلت المكتبة العصريَّة صامدة كل هذي العقود من السنوات ربما لموقعها الجغرافي في رأس السوق الكبير، واعتياد روادها على شراء الصحف والدوريّات والإصدارات التي تأتي تباعا إليها. وبسبب مركزها الستراتيجي وحضورها النوعي في إشاعة حبّ الثقافة وتوافر الكتاب والمجلة والجريدة فيها على الدوام، تم منحها إجازة استيراد للكتب والمطبوعات العربيَّة، أسوة بالمكتبات العريقة ذات الحضور في بغداد، وكانت الدفعة الأولى من استيراد المطبوعات من دور النشر العربيّة، هي مجموعة نادرة من القرآن الكريم والقواميس عربي/ إنكليزي، وذلك لسهولة وصولها للمكتبة وعدم تعطيلها لأخذ الموافقات من دائرة الرقابة العامة آنذاك.وسُئِلَ ذات يوم الكُتبي حيدر حسين أبو سعد والحديث لولده “سعد”: ما هي مواصفات الكُتبي، فأجاب: الكُتبي مثل الصيدلاني، فالصيدلية فيها جميع الأدوية، وهي تجمع المتناقضات، هناك أدوية “منحفات” وأدوية “مسمنات”، وهناك أدوية “مسهلة” وهناك “قابضة”.. المكتبة تعرض وتبيع هذا الكم من الكتب بمختلف توجهاته، وعلى الكتبي أن لا يعكس توجهاته السياسيّة والثقافيّة، وأن يقف بمسافة واحدة من الجميع. وهذا ما اعتاد عليه كُتبيُّو المكتبات الرصينة في بغداد “شارع السعدون وسوق المتنبي”.. مع الاتفاق على صنع ثقافة تحتفي بالإنسان والابتعاد عن ترويج الكتب الهدّامة التي تسبب أضراراً للمجتمع.
لذا كانت المكتبة العصريَّة فترة الستينيات والسبعينيات عبارة عن حوار أفكار، فهنا الماركسي والقومي والعروبي والإسلامي كلهم في حوار ودّي. و من الجدير بالذكر أن نؤكّد بأن عمل المكتبة ما يزال مستمرا حتى الآن، وبإدارة المعلم المتقاعد “شريف عبد الحسين أبو حسنين” الذي كان رفيقاً للحاج “أبو سعد”.
يقول الصحفي جلال ساجت عن المكتبة العصريَّة: “كان عملي منتصف السبعينيات في الدار الوطنيَّة للنشر والتوزيع، وكان عملها توزيع الصحف والمجلات والإصدارات الجديدة من الكتب على المكتبات في ميسان. وكنا نعطي حصّة الأسد من المطبوعات الى المكتبة العصريَّة، وصاحبها “أبو سعد” مثلا تصلنا 3000 جريدة، حصّة أبو سعد تكون 2000 جريدة، وهكذا بالنسبة للكتب والمجلات. وشكل الحاج “أبو سعد” أنموذجاً نادراً في تفانيه في عمله “كُتبيَّاً” وتمتعه بعلاقات واسعة وطيبة مع جميع الشرائح من أهالي ميسان، وتعامله النبيل مع الزبائن، ومن النوادر التي شهدتها وعايشتها، أنّ الحاج “أبو سعد” كان “يضوج” من المجلات الرياضيَّة.!! وذلك لازدحام الرياضيين والمهتمين بشؤون الرياضة وتزاحمهم عند المكتبة.والمكتبة العصريَّة ومنذ تأسيسها عام 1929 وحتى الآن هي محجّ الأدباء والصحفيين والمحامين، بل وحتى أبناء ميسان المغتربين لا بدَّ أن يمرّوا بها ويلقون التحية على الحاج “أبو سعد” بدءًا من الشاعر الكبير “محمد مهدي الجواهري” عندما كان معلّما للدراسة الابتدائيَّة في المناطق الريفيَّة لقضاء علي الغربي وتواجده الدائم للتزوّد بالجديد من الكتب الأدبيَّة ودواوين الشعر والروايات. وكذلك المخرج والفنان الراحل د. فاضل خليل، وكذلك  د. فاضل السوداني أستاذ المسرح، والروائي عبد الرزاق المطلبي، والعديد من الأسماء المرموقة والحاضرة في عالم الأدب والصحافة.