توماس ترانسترومر: يبحث عن قصيدته بين البحر وروزنامة العائلة

ثقافة 2022/07/06
...

 جون فريمان
 ترجمة: محمد تركي النصار
جذبت توماس ترانسترومر الحداثة والسريالية مثل الشعراء الآخرين الذين عاشوا أهوال الحروب، لكن الأمر الأكثر تأثيراً في حياته هو تجربة شخصية غيرته بشكل جذري، ففي أحد الأصياف عندما كان يبلغ الخامسة عشرة من عمره عانى الشاعر ممّا وصفه في مذكراته بالرعب الوجودي، واصفاً ساقيه بأنهما كانتا تهتزان وقد امتلأ بالرهبة: (عند ذاك كنت متشائماً من جميع أشكال الدين) هكذا كتب في (طرد الأرواح الشريرة) الذي طبع عام 1993، معترفاً بأن ما عانى منه ربما سيكون نوعاً من الإلهام لو حدث في فترة متأخرة.
 
 بعد تجاوز الأزمة بدأ ترانسترومر بالعزف على البيانو مكرّساً أوقاتاً أطول لهذه الهواية، وهي الفعالية التي حرص على ممارستها طيلة حياته، وظل يتأمل ما عانى منه محاولاً تقييم الحالة واصفاً إياها  بأنّها تشبه حالة من الذهان أكثر من كونها تجربة دينيّة.
وتتوسّع زوجته مونيكا في الشرح: (لو إن هذه التجربة التي مررت بها حصلت في عمر أكبر لكنت قادراً على التعامل مع الأزمة بشكل وسلوك مختلفين، وببساطة أنت طورت إيماناً خاصاً بدءا من مرحلة المراهقة، أظن أن هذا ما تحاول أن تقوله).. نعم صحيح يقول توماس.. لكن..)، (لقد خلقت صورة للإله بشكل ما لنفسك).. نعم..
(وعلى الرغم من كونه بلا انتماء محدّد ولا علاقة له بما كانوا يعلموننا إياه في الدراسات الدينيّة في المدرسة، فقد كان هناك شعور بالثقة بغض النظر عن طبيعة مصدره.. إنّه موضوع ليس سهلاً الخوض فيه).
يقول ترانسترومر بأنه ليس متأكداً تماماً ما إذا كانت التجربة المربكة التي مرّ بها هي ماجعلته شغوفاً بالمواضيع السايكولوجية (أعتقد أن انتقالاً من الوعي الديني البسيط إلى الإيمان قد حدث) هكذا تضيف مونيكا، الأمر له علاقة بالموسيقى، ومن بين جميع قصائد ترانسترومر فإنّ هناك واحدة مثيرة للفضول تعبّر عن العلاقة بين الموسيقى والإيمان (أشياء كثيرة علينا أن نثق بها) هكذا يكتب: (أن نعيش أيامنا من دون أن تبتلعنا الأرض).. في مرحلة متأخرة من سنوات المراهقة بدا ترانسترومر يبتعد عن الموسيقى باتجاه الشعر، منكباً على العمل الجاد لإيجاد طرق مبتكرة مثل أي شاعر مبدع لتجريب أشكال جديدة فبدأ بتأليف مقاطع شعريّة على طريقة الشاعر الروماني هوراس والشاعرة الإغريقيّة سافو.
يسحب ترانسترومر ديواناً شعريّاً له ويبدأ بتحديد شكل المقطع في قصائد كثيرة له، هناك، هناك، وتوضح زوجته بأن الشكل الشعري للشاعرة سافو أعطاه حرية أكبر في التعبير، وهو ما يؤيده ترانسترومر بقوة..
ليس هذا هو الالتزام الوحيد الذي وضعه الشاعر أمامه فهناك قصيدة تتحدث عن النظام البيئي الذي سيعمل ضمنه لبقية حياته وقد لمسناه حال وصولنا إلى جزيرة رنمارو بشكل واضح.. حيث الخضرة والبحارة والأمواج المتشابكة، وأصوات الجزيرة المميزة، وقد طبع الشاعر ثلاثة دواوين في الفترة اللاحقة إذ واصل تعميق علاقته بالمشهد الطبيعي، مع تنامي قدرته على الاقتصاد في عدد مفردات القصيدة وعندما انحسر المشهد الشعري العام أخذ ترانسترومر بالغوص في دواخله ليعثر على أسلوبه  الخاص.
خلال هذه الفترة بدأت مراسلات ترانسترومر مع الشاعر والمترجم والمحرر الأدبي الأميركي المعروف روبرت بلاي الذي ولد في مينسوتا وتميز بشخصية متعددة الاهتمامات، وقد بدأ رحلة أدبيّة في أميركا ظلت تجدّد نفسها مضفياً عليها اسما جديداً كل عقد من الزمان، ففي عام 1964 أطلق على رحلته اسم الستينيات، وفي آذار من ذلك العام، كتب ترانسترومر الذي كان يبلغ الثانية والثلاثين من العمر إلى المحرّر الأدبي لمجلة ميدسون في مينيسوتا طالباً الحصول على نسخة منها، وقد أجابه بلاي مباشرة موضحاً بأنه في ذلك اليوم أمضى وقتاً طويلاً يسوق عبر مينيسوتا ليقرأ كتاب ترانسترومر: (الفردوس نصف المكتمل) باللغة السويديَّة.
على مدى السنوات الخمس والعشرين التالية ظل الشاعران يتبادلان المئات من الرسائل عن المشهد الشعري العالمي، ونجد قصة هذا التواصل وتأثيراته على العالم الداخلي في كتاب (بريد الهواء) وهو الكتاب القريب جداً لترانسترومر إلى الحد الذي عندما جلبته من بين الكتب أخذه من يدي وضمه إلى صدره كأنّه لا يريد أن يعيده لي.
 ترجم بلاي وترانسترومر قصائد لبعضهما خصوصاً مايتعلق بالهموم السياسيّة، وقد كان صعباً حينها نشر قصائد بلاي عن الحرب الفيتناميّة، وانتقد ترانسترومر من قبل الماركسيين بسبب اختياره الانعزال، وأخبر بلاي أثناء اطلاعه على بعض المجلات المتزمتة بأنَّ الشبان الشيوعيين متشددون في نظرتهم للشعر.
 كتب توماس عدداً هائلاً من الرسائل ليس إلى بلاي فقط وهي رسائل فيها إسهاب ومزاح وأحيانا قسوة، وعلى الرغم من تميزه بهذه الصفات إلّا أنّه لم يشعر بالحاجة للتعبير عنها شعريّاً، وخلال ذروة المراسلات بينه وبين بلاي وتحديدا في عام 1970، حصل تطور مهم للشاعر: (أعيش تجربة كتابة قصيدة طويلة جداً عن البلطيق من زوايا نظر متعدّدة) هكذا كتب إلى بلاي في آب من ذلك العام: (بدأت عندما عثرت على روزنامة جدي التي تعود إلى عام 1880، مضيفاً بأنه وجد أن الكثير من تفاصيل حياته تتصل بمنطقة البلطيق، فبدأ حينها برسم تخطيطات لأشياء متنوعة.
 كان ترانسترومر شخصاً بسيطاً متواضعاً، وقصيدة (البلطيق) التي كتبها عام 1974 تسرد قصة حياة جده وجدته، أمواج من الصور بموسيقى تتدفق في المقاطع، محولة تجارب البحارة اليوميّة إلى جمال مبهر. 
دار نقاش بين الشاعر وزوجته مونيكا عن دور الشاعر روبرت بلاي في تشجيعه على كتابة قصائد نثر، فعلّقت مونيكا بأن بلاي لم يحب قصيدة (البلطيق) التي كرّس لها ترانسترومر جهوداً كبيرة مستخدما أسلوباً مباشراً سلساً وهو يرصد تاريخ عائلته، جامعاً ومرتباً ومعلقاً على مايعنيه الانتماء إلى مكان معين، ومعرفة حتمية الزوال أيضاً:
 كتب توربجورن شميدت، الذي جمع النسخة السويدية من ديوان (بريد الهواء): (يمكن القول إن معضلة ترانسترومر جذورها روحيَّة) مضيفاً أن الشاعر ظل يرفض وصفه بالصوفي ويؤكد بأن تجربته في الحياة هي عبارة عن أحجية بالمعنى العميق، فهناك أشياء عديدة لايمكن فهمها منطقيا وبهذا تمثل قصيدة (البلطيق) أنموذجا لهذا التداخل بين ماهو روحي وجينولوجي، وقبل اكتمال القصيدة صارت المراسلات بين ترانسترومر وروبرت بلاي أكثر وجدانيّة، وفي بعض الأوقات كان يبدو شبيها بوليم بليك (أحيانا ينتابني شعور بأن واجباً عليَّ القيام به تجاه وعي خفي) و(لماذا يتوجب أن أعيش هذه الحيرة الدائمة، لأرى وأسمع كل هذه الأشياء) وما الذي يعنيه هذا؟
وعندما سُئِل عما إذا كان هذا الأمر يعكس توجهاً بوذيّاً، علقت زوجته بأنّه سُئِل عن هذا مرّة، فقال بأنّه لم يدرس البوذيّة أو يتعمّق بها أبداً وإن الأمر لا يعدو كونه حدساً بوذياً من نوع ما أبعد من كونه انتماء روحياً يتصل بالإيمان
العقائدي.