فيودور دوستويفسكي.. التوازن محور الطبيعة البشريَّة

ثقافة 2022/07/06
...

 عصام كاظم جري 
   
“الجريمة والعقاب” رواية اجتماعيّة فلسفيّة، ونفسيّة، تعدُّ واحدة من مرويات الجريمة، نُشرت لأول مرة على صورة سلسلة أدبيّة، وبعدها نُشرِت على شكل طبعة مُنفصلة. وهي ثاني أطول روايات “دوستويفسكي” وتُصنف واحدة من أعظم الأعمال الأدبيّة الخالدة في التاريخ، يكشفُ فيها “دوستويفسكي” شخصيّة “راسكولينكوف” الذي أقنع نفسه بأنه مخلوق متفوق، ويستطيع كسر قيود الحياة المألوفة والتقليديّة بالشر، بغية تحقيق تطلعاته، لذا ارتكب جريمة قتل المرابية العجوز “إيفانوفيا” وأختها بفعل احتجاجي صارخ. 
حققت الرواية نجاحَا باهراً أدى هذا النجاح إلى تبايُن آراء المجتمع الأدبيّ بشأنها، لا سيما النقاد الروس وغير الروس، وأسهم هذا الجدل في ترجمتها عالميّا، تحديدا في ثمانينيات القرن التاسع عشر إلى لغات عدة، وكانت أوّل إنتاج مسرحي في روسيا، وعرضت في العاصمة الفرنسية باريس.
وبعدها عرضت في مختلف الفنون المرئية وغير المرئية، وصارت الرواية من كلاسيكيات السينما الغربية والعربية.
بدأت الرواية بشخصية محوريّة واحدة وفعل محوري واحد هو جريمة “راسكولينكوف” وتكشف الجريمة والعقاب حجم التوازُن، أي بعد كل جريمة عقاب، وبعد كلِّ عقاب إصلاح، وبعد كلِّ إصلاح تبرز الطبيعة البشريّة المتزنة، إذاً/ التوازن محور العَالَم عند دوستويفسكي. “راسكولينكوف” الطالب الجامعي، القابع تحت وطأة القحط المالي، والذي سهَّلت له نفسه تحت تأثير الصّراع الداخليّ المُنفلت قتل المُرابية العجوز “إيفانوفنا” وأختها ثم سرقة أموالها ومجوهراتها، بغية أن يتحرر من قيود الفقر، وبعد ارتكابه الجريمة، يدخل في صراع ومعاناة نفسيّة مستمرة، تأخذه تلك الصراعات إلى متاهة عقليّة ونفسيّة وجسديّة، يحاول من خلالها “دوستويفسكي” ربط الظروف الاجتماعيّة والأسريّة التي قد تدفع الشخص لارتكاب الجرائم بالصراعات المُركبة التي تتقمّص العقل. فحوى العمل يكشف السلوك الخاطئ والاعتراف السريع بالذنب، ويبدأ الصراع من جديد، لكنه صراع خارج حسابات العقل، يؤدي من ثم إلى غياب التناغم مع النفس من جهة والمحيط الخارجي من جهة أخرى. ويبدأ فعل الجريمة بتنامي الصّراع النفسيّ ليقفز نحو السلبيّة ضد الآخر، ضد أسرة القاتل، ضد أسرة “سونيا” ضد الجميع، فضلاً عن فقدان الثقة والتّشظي والتّشكك الدائم، المصحوب بالتوتر العصبيّ والنفسيّ، والانشغال بالتساؤل عمّا يضمره المحقق والآخرون من حوله. (الطبيعة البشريّة) هي مجموعة ملامح منها: التّفكير، والإحساس، والتّمثيل، التي تجعل الإنسان كائنا طبيعيّا ويعد المصطلح بمثابة التقاط لما هو إنساني أو جوهر الإنسانيّة. المصطلح مثير للجدل لأنه محل خلاف حول وجود مثل هذا الجوهر أم لا. وفضلاً عن عملها الأدبي، تُسحب الرواية في مضمونها إلى علم النفس، وقد شكّلت أعمال “دوستويفسكي” عموماً و”الجريمة والعقاب” تحديداً مرجعاً لمنهجيّة علماء النفس. ويدعو “روبرت غرين” في كتابة الموسوم: (قوانين الطبيعة البشريّة) إلى تطوير الذات البشريّة اجتماعيّا ونفسيّا لتصبح أكثر تسامُحَا، والاحتفاظ بالتفرد والاختلاف، والاستفادة من هذا الاختلاف لا سيما في التنوير الإنسانيّ، ونسيان العودة إلى الخلف. إنَّ الدفاع والهجوم طبيعة بشريّة، غاياتها الاستمرار ضمن المحيط، والعجز عن المواجهة طبيعة بشريّة أيضا وسلوك من سلوكيات الفرد.
وفي النهاية “الجريمة والعقاب” رواية بحث نفسي، هذيان، إغماء، حمى مرتفعة، نزف، عذاب وضغط، قلق وتوتر.. ألخ.
واستطاعت الطبيعة الإنسانيّة أن تتفوق على كل هذه العذابات. “لم أؤمن أبدًا ولن أؤمن إطلاقًا بأنّ الشرّ هو السمة الطبيعيَّة لدى بني البشر”، هذا ما كتبه “دوستويفسكي” عن توازُن الخير والشر.