الثقافة وسؤال الهويَّة

ثقافة 2022/07/16
...

 حسن الكعبي 
لم تعد الخصوصيَّة ميزة من مميزات الفكر الخلاق أو الفكر الذي يفتتح الأسئلة الكبرى بل إنها باقترانها بالإيديولوجية اليقينيّة أصبحت دلالة على الانكفاء وعدم الاعتراف بالتعددية، وكذلك مفهوم الهوية الذي أصبح هو الآخر سردية تاريخيّة مفبركة تمارس إلغاءها للآخر.
 
 فالفكر العالمي المتفاعل هو فكر عابر للهوية وسردياتها ولحكاية الخصوصيّة، لأنّه في ظل مهيمنات العولمة وفضاءات الميديا الواسعة التي تمثل سلطة رقابيّة لتحولات المجتمعات سياسياً واقتصادياً وثقافياً لم يعد ثمّة ما يؤشر سرديات الخصوصيّة والهويّة، فقد أصبح العالم بحسب توصيفات الغذامي (حمام زجاج يمكن أن يؤشر فضائحيتك بدل أن يسترها) في إشارة منه لانتفاء الخصوصيات في ظل سطوة رقابيات الميديا.
إنَّ الفكر الخلاق والهوية الخلاقة هما اللذان يتمثلان ويمثلان، أي هما اللذان ينفتحان على ثقافة الآخر ويصهرانها في منظومة الثقافة والمعرفة، ومن ثمّ في منظومة الهوية إذ تبدو علاقة التمثل والتمثيل أشبه بعلاقة الجسد والثقافة - في توصيف الغذامي أيضا - الذي يماهي بين الجسد والثقافة بإشارته إلى أن (الجسد عندما يتناول الرز لا يمكن أن يتحول إلى كيس أرز إنّما الأرز هو الذي يتحول إلى طاقة محركة للجسد) والثقافة إيضا عندما تتمثل الأفكار فإنّها لا تقع تحت هيمنتها إنّما تشحنها بطاقة للخلق والتأثير، وباستضافة رأي نيتشة ثمة ما يشبه توصيفات الغذامي في سياق المماهاة بين اللغة والجسد، إذ يعتقد بأنّ الجسد كما يتعافى بالرعاية ويتمارض بالإهمال فإنّ اللغة أيضا تتعافى وتمرض وتموت، وبالنسبة للمطلع على أفكار نيتشة فإنّه يدرك أن مقصدياته عندما يتحدث عن اللغة فإنّها تتجه للفكر وتخصه.
إذن فإنَّ مهام الفكر والثقافة الأصيلة والعالمية تتمثل في التواصل الذي أصبح أخطر المسؤليات والمهام الملقاة على عاتق المثقف في الوقت الراهن، ونعني بالتواصل هو تواصلنا مع النحن في إطار ثنائيّة المركز والهامش وتواصلنا مع الآخر بوصفه منتج ثقافة، حاضرا ومؤثرا في واقعنا وثقافتنا ومسهما في ترشيد مفاهيمنا النظريَّة وتصحيح مسارتها وأن أي محاولة لإلغائه ستكون ضرباً من ضروب التخلّف الذي يعمل الفكر التنويري على معالجة إشكالياته ومقاربتها ثقافياً في سياق التوجه للنسق الاجتماعي المنغلق والمتشبّث بسرديّة الخصوصيّة التي تؤشر ذلك النوع من الاحتفاء بالجهل الذي ربما صنعته أوهامنا الثقافيّة ونخبويتنا الطاردة. إذن هناك ضرورة وهي ثقافية وفكرية لتأسيس رؤى ومفاهيم نقدية جديدة تسعى إلى معالجة التأزمات والتعضلات التاريخية للمجتمعات المحتفية بقينياتها وهي يقينات تؤشر التراجع الحضاري لها وهيمنة أنساق التخلّف عليها على الصعد الاجتماعية والثقافية والسياسية، ومن ثمّ فإنّ الضرورة الثقافية المنتجة للرؤى المتساوقة مع تطورات الوعي الثقافي الجديد التي تحاول أن تكشف المخبوء (المسكوت عنه) ضمن هذه الأنساق لتفكيك بنيتها وتغيير منظومتها المفاهيميّة الدوغمائيّة كمنظمونة مترسّخة ومتجذّرة في تخوم اللاوعي المجتمعي والذي يكتظ بالكثير من الخرائب والأعطاب الثقافيّة التي تكوّنت من خلال المتراكم من الأحقاب الفجائعيّة، الأحقاب المظفرة دوماً وأبداً بانتصار القامع السياسي الذي استطاع أن يطوع الثقافي لمنظومة فهمه الانكفائي واليقيني.إنَّ الوعي الذي يستطيع أن يتخلص من طابع مهيمنات التسلّط بجميع مستوياته هو الذي يتمكن من أن يدفع المجتمعات الانكفائية باتجاه الانفتاح على الفكر الإنساني القامع للتوحّش والفردانيّة بتحريره للأسئلة الكبرى التي تنفتح على الهوية والخصوصية وزيف سردياتها التي عزّزت التصورات الفردانيّة وإخضاعهما  للمساءلة النقدية، ولذلك فإنّ مهام الفكر النقدي الجاد والحقيقي للراهن الثقافي تكمن بتحرير السؤال الكاشف والمستغور لإشكاليات التخلّف وانغلاق الهوية، وكذلك تحرير السؤال النقدي المكبوت بكل المهيمنات والكوابح ودفعه باتجاه الانفتاح على فضاء التغيير المنتج  للتنوع والتعدد والمنعتق من موروثات التأخر والسكون إلى رهانات الواقع المندفع نحو المستقبل. فحراك الأفكار ونقدها بالجدل المنتج هو الذي يؤسس لبناء مقدمات وعي جديد يؤمن عملية الانتقال والتحول من الثقافة الواحديَّة الاتجاه إلى ثقافة التعدديّة ومن ثقافة السلطة إلى ثقافة المجتمع، بيد أنَّ الرهان على الفكر العربي في مساءلة التاريخ والهوية هو رهان خاسر منذ بداية حكاية الحداثة عندنا وإلى ما بعدها أي منذ عصر النهضة في مشاريع البرت حوارني وفرح أنطوان مروراً بمشاريع العروي وصولاً إلى يومنا خصوصاً ما يتعلق بمسألة تمثل مفاهيم الليبراليّة والديمقراطيّة وما يستتبعها من مفاهيم الحرية والعدالة الاجتماعيّة التي ظلت تعاني من تأزمات كبرى منذ الستينيات وإلى يومنا هذا.
إنَّ عبد الله العروي وقف على العطالة الفكريّة في مشاريع الحداثة وما بعدها في الفكر والثقافة العربيّة في فترة الثمانينيات ضمن مشاريعه المهمة التي وقفت عند أهم مفاهيم الحداثة فقد أشار في كتابه مفهوم الحريّة وهو من ضمن سلسلة كتب توقفت عند مفاهيم الحداثة وما بعدها بالتشريحات التفصيليّة (أن الحرية الليبرالية لا تمثل نظرية بين نظريات الحريّة، بل تنفي ضرورة التنظير للحريّة، هذا هو الدرس الذي تمدنا به الليبراليّة في كل زمان ومكان، نلاحظ أثناء العهد الليبرالي العربي ابتعاداً عن النظريات فلم تستعد نظرية الحريّة حقها من اهتمام المؤلفين إلّا بعد انتهاء العهد الليبرالي، بعد أن أوضحت التجربة أنّ الحريّة الليبراليّة متناقضة في ذاتها).
في سياق تعليقه على استخلاصات العروي لأزمة التمثل العربي للحداثة وعدم التصدي بالنقد الفلسفي لمفاهيمها والاكتفاء بالشعارات يقول عبد الله الغذامي إنَّ الليبراليّة العربيّة هي مشاريع استسلمت لتسمية الخصوم ولم تكن مشاريع تأسيسيّة أي أنّها نمت في منطقة الفراغ الاصطلاحي وأنّها ليبراليّة افتراضيّة، ولذلك فهي لم تنفتح على مشاريع كبرى ضمن الهوية والتاريخ أو ما يسميه النقد الثقافي على المعنى العميق الذي تتضمنه الهوية وأنساقها الاقصائيّة.
إنَّ المشاريع الفكريّة المهمة التي تصدّت بالنقد الفلسفي لفكر الحداثة وما بعدها وما يترشّح عنها من مفاهيم ومن أهمها مسألة الهوية التي تمركزت كمفهوم معوّق لعمليات التواصل الإنساني وأنتجت فكرا توحشيّا هي المشاريع التي انطلقت من تحليل السرديات الروائيّة في مشاريع إدوارد سعيد وجورج طرابيشي وصادق العظم وفيصل دراج وغيرهم، ولذلك وفي إطار هذا الكم من السرديات الروائيّة العربيّة والعراقيّة التي تنتمي لمشاريع ما بعد الحداثة فإنّ الضرورة النقديّة تحتم التوجه إليها في تحرير الأسئلة العميقة والكشف عن المعنى العميق الذي يستبطن الهوية وأنساقها الخبيئة.