خديعة المشاعر في رواية السرّ الحارق

ثقافة 2022/07/18
...

 هدية حسين
 
تنطلق أحداث رواية (السر الحارق) للنمساوي ستيفان زفايغ من أحد الفنادق، وتقتصر على ثلاث شخصيات تتحرك أمام القارئ كأنَّها من لحم ودم وليستْ شخصيات ورقيَّة، البارون، والأم، والطفل، بخمسة عشر فصلاً قصيراً، سنتعرّف أولاً الى البارون الذي يصفه ستيفان زفايغ بأنّه رجل يلفت الانتباه ويسرق الأنظار،  وقد قرّر أن يقضي إجازته السنويَّة في الفندق الذي وصل إليه في عربة تجرها الخيول (الرواية كتبها ستيفان زفايغ عام 1911)  نزل في هذا الفندق تحديداً لأنَّه كان متوقعاً أنه سيجد أصدقاءه فيه، وكان الطقس ربيعياً والنسيم باردا والجبال ماتزال تغطيها الثلوج، وما إن وصل وسأل عن أصدقائه اكتشف أن أي أحد منهم لم يصل، هذا يعني أنه سيبقى وحيداً، وهذه مشكلة بالنسبة إليه، فهو رجل اجتماعي بطبعه، ومهما يكن من أمر فسيجد طريقة  لكسر وحدته، مغامرة ما مع امرأة يبدّد من خلالها وحدته، لقد خاض البارون مغامرات كثيرة، وهو لا يمنع نفسه عن أية امرأة حتى لو كانت زوجة صديق له، أو مجرد خادمة، إنه من النوع المغامر الذي لا يقف بوجهه أحد، جاهز لكل شيء ومستعد للمجازفة ومسكون بالرغبة، ولكن أين هي هذه المرأة التي ستكون طوع يديه في هذا الفندق الذي يبدو مهجوراً؟ إنه لا يرى إلّا عدداً محدوداً من الرجال، وهذا يعني مشكلة بالنسبة له وقد قطع مسافة طويلة ليصل.
تقوم رواية السرّ الحارق على حكاية قد تبدو عابرة إلّا أنّها تشكل إطاراً مهماً لما سيأتي من أحداث ومتغيرات، وتجمع ثلاث أزمات في أزمة واحدة يتحملها طفل في الثانية عشرة من العمر اكتشف خديعة الصديق الذي هو البارون، وزيف مشاعر أمه، فقام الاثنان باستغلاله، والرواية لا تقوم على التداعيات وإنما ينحصر زمنها باللحظات الآنية التي فرضها الحاضر، أما البارون الذي بدأت الرواية به وتسيّد المشهد في النصف الأول منها فهو ليس بطل هذه الرواية، وإنما الطفل الذي سيتجه بالأحداث الى أعمق أعماق نفسه المضطربة، فتتحول الرواية في نصفها الثاني الى منطقة سيكولوجية تركز على حالة الطفل المخذول بكل اضطراباته وانكساراته، فهو بؤرة الحدث الذي ستقوم عليه الرواية بعد أن تتعرّى أمامه الصورة المشوّهة للحب.
 ولكي نمسك بخيوط الحكاية ولا نستبق الأحداث دعونا نتابع خطوات البارون عندما نزل مساءً الى  صالة الطعام وجلس حول إحدى الطاولات مكتئباً، ولم يمر وقت طويل حتى مرت بالقرب منه امرأة ممشوقة القوام بصحبة طفلها، جلسا حول الطاولة التي تقابله، فانصب نظر البارون عليها، وراح يتفحّصها، إنّها امرأة أنيقة جداً وشهيَّة، فأشرق وجهه ولم يعد مكتئباً، وعلى الرغم من أنها انتبهت لنظراته تلاحقها فقد تجاهلته تماماً، إلاّ أنه طمأن نفسه مثل صياد متمكن من وقوع الفريسة بين يديه، وها قد بدأت اللعبة التي كما هي أعمال ستيفان زفايغ مثيرة ومشوقة.
في اليوم التالي نزل البارون الى البهو وشاهد الطفل وحده، بدا له خجولاً وعصبياً، ومن الواضح أنه يبحث عن صديق فلا يجد، كلما اقترب من أحدهم بدا الآخر غير مكترث له، ففكر البارون بأن هذا الطفل سيكون وسيلته للوصول الى هدفه، وهكذا اقترب منه ومدّ له يداً ليصافحه، ثم استدرجه ليأخذ منه بعض المعلومات، ومن سؤال الى آخر عرف منه بأنه يحب الكلاب فوعده بأنه سيهديه أحد كلابه، يا لها من فرحة لطفل وحيد لا يجد له صديقاً في هذا المكان إلّا هذا الرجل الغريب الودود الذي أعاد له الثقة بنفسه والذي سيهديه كلباً، لقد أبدى البارون حباً لهذا الطفل، والطفل تعلق به منذ أول لقاء، وشعر بأنه للمرة الأولى برفقة شخصية مهمة مثل شخصية البارون لدرجة أنه هو نفسه  شعر بأهميته فتلاشت المسافة العمرية بينهما، وكم كانت سعادته كبيرة عندما اقترح عليه البارون أن يلتقيا في اليوم التالي، وهكذا كسب البارون ثقة الطفل من الجولة الأولى، فكيف ستكون بقية الجولات؟
على مهل يأخذ ستيفان زفايغ القارئ ويدخله في غابة متشابكة من المشاعر، مشاعر رجل شهواني يرمي شباكه ليصطاد امرأة غير موفقة في زواجها، وطفل سيكون ألعوبة بيد البارون وأمه في آن واحد، وقد اتكأ السرد في البداية على البارون ومن ثم انتقل بتركيز شديد الى الطفل حتى النهاية، وهو ما سيحرك الواقع السردي في الرواية ويضفي عليها مزيداً من التشويق والإثارة، بحوارات على شكل منلوجات داخلية خصوصاً عندما يكتشف الطفل الخديعة، ولكن قبل اكتشاف الخديعة سيلتقي الثلاثة في اليوم التالي في صالة الطعام، ما إن يدخل البارون حتى يقفز الطفل من مكانه فرحاً، ويتقدم البارون من الأم ليلقي عليها التحية ويجلس بالقرب منهما ليسألها عن حالة الطفل الصحيَّة، فيدخلان في مناقشة حول مرض الابن والغاية من هذه الرحلة الى هذا المكان الهادئ، وتنتهي المناقشة باعتذار الأم حين تنهض على الرغم من اعتراض ابنها الذي أراد أن يبقى أطول فترة ممكنة مع البارون،  فيمتثل الطفل لأمه وينام تلك الليلة مضطرباً ومفكراً بهذا الرجل الذي جعل منه صديقاً، وأحبه حتى أكثر من أمه وأبيه.
بين جذب وشد، وإقدام وتردد، تُستدرج المرأة الى علاقة غير محسوبة مع البارون، لقد بقيت لفترة طويلة متعطشة لحب تفتقده مع زوجها فأحست بأن عمرها يذهب سدىً وعليها أن تخوض في غمار هذه التجربة، منحية كل ما يعترض طريقها حتى لو كان ابنها، وبرغم هيمنة البارون على الأحداث إلّا أن الطفل سيمسك باهتمام القارئ حين تجري الأمور بعكس ما كان متوقعاً للطفل، لقد كبرت أحلام الطفل عندما تعرف الى البارون، وعاش سعادة افتقدها منذ فترة طويلة، ثم بعد ذلك صُدم بأفعال البارون وأمه، وأصبح كل واحد منهما يتجاهله، بل يبحث عن أية ذريعة لإبعاده، فاختل عالمه واضطربت نفسه، لم يعد الصديق صديقاً ولا الأم أماً، ثمة شيء غامض عصي على طفل في الثانية عشرة من العمر، فتحول حبه للبارون الى بغض شديد وشعور بالانتقام، وهكذا ستتسع مساحة دور الطفل باتساع آلامه وشكوكه، وبحثه عن طريقة للانتقام. 
 وبين الحب والكره يلعب ستيفان زفايغ لعبته الفنية من خلال علاقة تقوم على رغبة جامحة وعابرة باسم الحب، وحب تحول الى كره لدى الطفل جعله يبحث عن السرّ في هذا التحول المفاجئ لسلوك البارون وأمه، فتشتبك عليه الأمور وتحيله الى كتلة من اضطرابات تضغط عليه ويصعب الخروج منها نظراً لصغر سنه، ولكنه يضع على قدر ما يستطيع العراقيل أمام الأم وعشيقها، فهل سينجح؟ وهل ستنتهي أزمة الطفل، وما هو مصير العلاقة التي ربطت بين الأم والبارون، وهل ستتخلى الأم عن أمومتها أم ستعدل عن ذلك، هذا ما سنتركه للقارئ الذي ستسحره أجواء رواية (السرّ الحارق) وتشده حتى آخر صفحة لرواية نفسية بامتياز.. وهي من إصدارات دار مسكيلياني للنشر والتوزيع 2018، تونس، وترجمها عبد الكريم بدرخان.