في أدلجة الأدب

ثقافة 2022/07/18
...

 د. كريم شغيدل
         إن ما سمي بنكسة حزيران 1967 وحدها شكلت إرثاً شعرياً ذا نزعة قومية خطابية أولا، ثم تأملية وجودية، تمظهرت رمزياً حتى في قصائد الحب، لما تركته من أثر نفسي عميق في تركيبة الشخصية العربية، وقد تمحور الأدب العربي ردحاً من الزمن حول المردودات السلبية على الواقع بأثر النكسة، بحثاً في أسبابها ومآسيها وحالة الإحباط التي شكلتها للشعوب العربية عموماً، حتى بلغ الأمر بالنقد الحديث أن يصنف أدباً خاصاً تحت مسمى (أدب النكسة).
وقد كرّس ذلك نسقاً عاطفياً جديداً يمكن أن نطلق عليه (نسق الذريعة أو الذرائعية، وهنا لا نعني المذهب الفلسفي لجون ديوي)، إذ دأبت السلطة بمفهومها الأوسع على أدلجة خطاب تسويغي يضمن بقاءها بكونها ممثلاً شرعياً على الرغم من الهزيمة، فللهزيمة مسوغاتها الموضوعية، بمعنى آخر إنَّ العوامل التي أدت إلى النكسة لها أسبابها الخارجة عن إرادة السلطة، فالأب يسوّغ لأبنائه، والمسؤول يسوّغ لأعوانه، والأحزاب ترسم خريطة ذرائعية لجمهورها، والحكومات تستأسد في قمع الحركات التقدمية اليسارية والإسلامية، على الرغم من أنهما على طرفي نقيض، بذريعة العمالة والرجعية وإحباط الأمة، وحتى أحزاب المعارضة وجدت في الهزيمة ذريعة لمعارضتها، طارحة نفسها بديلاً لتحرير فلسطين، ومن خلال ذلك سادت لغة التخوين المتبادل بين السلطة والمعارضة في عموم البلدان العربية، بل إن بعض الأحزاب التي قامت بانقلابات لإسقاط أنظمة عربية، عدت النكسة عاملاً من عوامل تحركها، مثال على ذلك ما حدث في العراق 1968، وما حدث في ليبيا 1969، فالانقلابيون في كلا البلدين صدقوا بكونهم القدر الحقيقي الذي ينقذ الأمة من تداعيات نكسة
حزيران. 
وهذا السرد التاريخي هو لتوضيح مسألة مهمة تخصّ الشعر أو عموم الأدب العربي الحديث، إذ أصبحت النكسة مسوغا  لتقوية الحسّ القومي على أساس إعادة بناء الشخصية العربية وانتشالها من حالة الإحباط، وهو ما تناغمت عليه كل مؤسسات الأدلجة التي تدس خيطاً ناعماً في بطانة النص الثقافي، هو ما أطلقنا عليه نسق الذرائعية، وكانت لكل تلك التحولات والانعطافات آثار حقيقية على الأدب، لا من حيث هو خطاب جمالي أو أخلاقي، وإنما من حيث تجسيده للهوية التي وصفت بالعربية.
لقد دأب الخطاب الثقافي في بعض البلدان العربية لا سيما العراق، على ترحيل فكرة الوطن الواقعي، ورسم صورة وهميَّة لوطن عابر للحدود، الأمر الذي جعل بعضهم يحاول العودة إلى القومية السابقة للعربية، كادعاء المصريين بالقبطية أو الفرعونية، وادعاء الشاميين بالقومية السورية واللبنانيين بالفينيقية، وادعاء الكورد بالآرية، وادعاء العراقيين بالسومرية أو البابلية أو الكلدوآشورية.
وقد ظهرت بعض النزعات القومية من هذا النوع إبان بعض الانعطافات التاريخية، فالآيديولوجيات والاتجاهات الفكرية سواء كانت في السلطة أم في المعارضة، تورطت في توسيع مفهوم الأمة، فخلقت مفهوماً وهمياً أوسع مما يحتمله الواقع من خلال الوحدة والوطن العربي
الواحد. 
وهناك «تيارات فكرية عارضت فكرة الوحدة العربية أو على الأقل شكَّكت في إمكانية تحقيقها. كانت هناك النزعة الفرعونية في مصر والقومية السورية في الشام والنزعة الفينيقية في لبنان، وكانت هناك أيضاً السياسة البربرية الفرنسية في شمال أفريقيا» كما يقول محمد عابد الجابري. اليساريون يرفعون شعار(وطن حر وشعب سعيد) لكن ما حدود ذلك الوطن؟ الوطن بالنسبة لهم العالم كله، الذي ينبغي أن تسوده الاشتراكية الشيوعية، وهويته الوحيدة الشيوعية التي تلغي كل ما عداها من ولاءات وانتماءات. 
الأمر الذي أنتج نزوعاً قومياً وطنياً في بلدان المنظومة الشيوعية بمجرد انهيار المنظومة السياسية للاتحاد السوفياتي، وهو ما أثار جدلاً في الأدبيات السياسية والثقافية والاجتماعية. 
«وقد احتدم هذا الجدل إلى حدود كبيرة بعد انهيار النظام الاشتراكي العالمي وتحلّل المنظومة السوفياتية، الأمر الذي دفع شعوباً وأمماً وجماعات لتخوض صراعاً حاداً باسم الدين أحياناً وباسم القومية أو اللغة في أحيان أخرى، وفي كل الأحوال كانت الخصوصية أمراً ملازماً لكل حديث عن الهوية، إذ سرعان ما طفحت كيانات وكتل على السطح بعد طول كبت وشعور بالتمييز،» كما يقول عبد الحسين شعبان، والحركات الإسلامية لم تكتفِ بحدود الوطن الأم، بل خلقت أمة دينية، انشطرت لاحقاً بحكم الاستقطاب الطائفي، أما القوميون فقد تمحورت ذهنيتهم الأيديولوجية حول مفهوم الوطن العربي الواحد، والواقع أن لكل شعب من شعوب الوطن العربي طابعه الثقافي وعاداته وتقاليده وطريقة حياته، على الرغم من المشتركات الموضوعية التي يمكن عدها خارجية، فهناك خصوصيات وطنية داخلية، وهناك معوقات خارجية، والأمر ليس مجرد عاطفة سياسية أو خطابات رومانسية ثورية، أوروبا توحدت اقتصادياً من دون شعارات ولا أدلجة قاتلة تؤدي لصناعة العنف والقمع، وأنظمتها بالكامل أنظمة ديمقراطية، سواء أكانت ملكية أم جمهورية، بمعنى آخر أن مفهوم الأمة تحول من كونه مفهوماً سياسياً إلى مفهوم أيديولوجي، عالمية/ إسلامية/ قومية، وليس ثمة متسع لفكرة الوطن جغرافياً وتاريخياً
وثقافياً. 
فقد سعى الملك فيصل الأول (رحمه الله) لبلورة مفهوم الأمة العراقية، وحاول رسم صورة لشخصية عراقية توحدها السدارة كعلامة ثقافية قبل كل انتماء، لكن مشروعه ذاك قد اصطدم بمصدات القوميين واليساريين على حد سواء، بل إن الملك غازي الذي أعقبه كان ذا نزعة قومية، على أنَّ العائلة المالكة تعد نفسها الوريث الشرعي للثورة العربية التي قادها الشريف حسين بمساندة
بريطانيا. 
نجد أنَّ تلك الأوطان الشاسعة الوهمية العابرة للبلدان سرعان ما تتلاشى ويصار إلى ردة فعل عكسية تماماً، في البحث عن وطن أضيق، فمن وطن كبير ومترامي الأطراف إلى وطن ذاتي، تمثله الطائفة أو القبيلة، وهذا ما حدث في البلدان التي تعرضت إلى صدمات تاريخية فككت كياناتها السابقة، فالهوية التي يمكن وصفها بالعربية أو الوطنية أو القومية، سواء أكانت فطرية عاطفية أم أيديولوجية، قد طالها التفكك، وواجهت تحديات التشظي إلى وحدات محلية حامية للنوع، في واحدة من ارتدادات نسق التعصب غير المدرك. 
فمن فكرة الأمة التي تشمل عشرات البلدان بمختلف المكونات إلى أمة صغيرة منكفئة على هويتها الفرعية، ليس ثمة خيار وسطي، وإذا كان المد القومي «قد تراجع منذ السبعينيات ليترك المكان للدولة القطرية العربية التي صارت الآن حقيقة نفسية فضلاً عن كونها واقعاً اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً ودولياً، فإن المرء يستطيع مع ذلك أن يجزم بأن أفراداً قليلين فقط من سكان هذه المنطقة، التي تمتد من المحيط إلى الخليج، لا يتحمسون لأنْ يوصف الواحد منهم بأنه
«عربي». 
إنَّ الأغلبية الساحقة من سكان هذه المنطقة يعتبرون هذا الوصف جزءاً من هويتهم» على رأي محمد عابد الجابري، ولم يكن الأدب بمنأى عن التمحور حول هذه الهويات المتزاحمة، ففي العراق يمكننا تشخيص شعر مناطقي أو جهوي واضح المعالم، لغة وموضوعات ومدلولات وبيئة
ورموزاً.