مورييل روكايزر: الشِّعر بوصفه شاهدا

ثقافة 2022/07/18
...

 علي محمود خضير
يتعرّف قرّاء الشعر الأميركي على مورييل روكايزر (1913 - 1980) بوصفها شاعرة وناشطة سياسيّة عرفت بقصائدها عن المساواة والنسوية والعدالة الاجتماعيّة. لكن عملها الاستثنائي «كتاب الموتى» سيكون، بلا شك، العلامة الأبرز. قصائد الكتاب، التي نشرت عام 1938، كانت استجابة بليغة من روكايزر لمأساة نفق «عش الصقور» الشهيرة في جسر جولي بفرجينيا الغربية، إذ قضى أكثر من 800 عامل - معظمهم من المهاجرين السود - بسبب التسمم بمادة السيليكا، في واحدة من أسوأ الكوارث الصناعية في التاريخ الأميركي التي سبّبها جشع الشركات والفساد. ردة فعل روكايزر الشعريّة واحدة من أكثر الأعمال تأثيراً وأهمية في الشعر الأميركي الحديث، وقد وصفها الشاعر فيليب ميترز بـِ «حجر المحك» للشعر الوثائقي.
ليس من المستغرب إذن أن تُشكّل مقتطفات من «كتاب الموتى» ربع المختارات الشعريّة الشاملة التي صدرت مؤخراً للشاعرة بتحرير واختيار ناتاشا تريثيوي عن دارEcco . في مقدّمتها، تتذكّر تريثيوي أول لقاء مع شعر روكايزر: «قرأتُ «كتاب الموتى» بصوت عالٍ في ندوة كلية الدراسات العليا، شعرتُ بالقوة الرنّانة لصوتها الحي، لقد هزّت القاعة مثل صاعقة».
اختارت المحررة ثمانية عشرة قصيدة من أصل 20 في «كتاب الموتى» لتضمّها إلى المختارات، وهو قرار يمنحُ القارئ صورة وافية عن المجموعة. نقرأُ في القصيدة الأولى، «الطريق»، عن حياة الذين كافحوا أعقاب الكارثة، مع صور للممارسات الصناعيّة الاستغلاليّة في البلاد. المتحدث في القصيدة يلوّح لظلال الحياة المتقلصة بآثار الرأسماليّة والاستعمار الاستيطاني، الفنادق وملاعب الغولف والمنتجعات الصحية والمطار. الصناعة أكلت الحياة. تكتبُ روكايزر: «ها هو طريقك، يربطك بمعانيه/ لم نعد مسافرين: نحن متواطئون».
تمزج روكايزر بين الكلمات والوثائق. انتقالات محسوبة بين رئات عمال المناجم المختنقة والمناظر الطبيعية، والأنفاق التي بدت كالندوب على الأرض بحثاً عن السيليكا الثمينة.
في مواضع عدّة تعرض القصائد الأنماط الخبيثة لتاريخ التفوق «الأبوي» الأبيض أمام استمرار النضال من أجل العدالة والمساواة، حيث حقائق الأمة مدفونة تحت سطح المناظر الطبيعية والمباني الزاهية. من العسير قراءة هذه القصائد من دون أن ترن في أذنيك الكلمات الأخيرة لإريك غارنر وجورج فلويد.
أسبابٌ عديدة تكسبُ شعر روكايزر زخماً مستمراً في القرن الحادي والعشرين. وحتى لا يصير الحكم بكونها «سابقة لعصرها» مبتذلاً، فإنَّ اهتمامها بتجاوزات رأس المال وجور عمليات الاستخراج الصناعي وتدهور البيئة يضع قصائدها في مقام متفرد من البصيرة والحيوية. من المفارقة أن والد الشاعرة كان مهندساً في إحدى شركات الاسمنت التي لطالما استثمرت في تلك المناجم الملعونة قبل أن يضرب الكساد الكبير مالك الشركة.
تصبح الأرض المنهوبة صورة أساسية عند روكايزر، تتقاطع مع فكرة متكررة هي صورة النهر. نهر الشاعرة. النهر الذي تم التلاعب بمساره، ومن ثم تسميمه بالمخلّفات، وإهماله، يظهر بوصفه رمزاً لقوة الطبيعة «المنتهكة». النهر ذاكرة صور متدفقة. يأخذنا إلى المحيط، ويأخذنا أيضاً إلى واحدة من أهم محطات حياة روكايزر ومهنتها: ذكرى إبحارها بعيداً عن إسبانيا بداية الحرب الأهلية
الإسبانية. 
*
تتكوّن المختارات من 75 قصيدة، وبالنسبة لمؤلّفة غزيرة الإنتاج مثل مورييل روكايزر، ستؤدّي هذه الاختيارات بالضرورة لإعادة إنتاج القصائد خارج سياقها. ومع ذلك، فإنّ السمات الشعريّة في استثمار الحدود الزمنية والجغرافية والمادية والمجازية تضفي على «السياق» مرونة مناسبة، وتمنحه خبرة حيوية وجديدة في آن.
من مرثيات روكايزر (1949)، اختارت المحررة تريثيوي إعادة نشر «المرثية الرابعة: اللاجئون» و»المرثية الإلكترونية: مرثية الأطفال». والقصيدتان مرتبطتان ارتباطاً وثيقاً:
«خط من الطيور، خط من الآلهة. من الأجراس
الطيور كلها استقرت فوق ظلالها
نهاية الشارع المظلل صف من الأطفال
 (...) إنه أنت
أصغر بخمس سنوات، ثم أصغر بخمس سنوات، وأصغر،
حتى يكون لأبعد رضيع وجه
متوثب للنمو ليصبح أي طفل في العالم”.
في عبارة واحدة، بسيطة، يُطلق العنان لسيل من الصور المترابطة التي توثّق التغطية الإعلاميّة المروعة “لأزمة اللاجئين”:
(...)
عشت في قرن الحروب العالميّة
حيث، في معظم الصباحات، ستكون مجنوناً إلى حد ما،
(…)
ستتدفق الأخبار من الأجهزة المختلفة
تتوقف، أحياناً، بسبب محاولات بيع المنتجات إلى الغيب!
 
نشرت القصيدة في الأصل في عام 1968 في ذروة حرب فيتنام، ويتردد صداها بعمق مع لحظتنا المعاصرة، حيث قد ينقطع “تايم لاين” مواقع التواصل الاجتماعي من على “أجهزة مختلفة” للحظات بسبب الإعلانات المستهدفة والممولة. تجسّد القصيدة مزيج التعب والجنون اللذان تولدهما الحروب المستمرة في نفوس المسحوقين بنيرانها. تقدم المتكلمة في النص “قصائد لآخرين غير مرئيين، ولم يولدوا بعد”، وتبعثُ برسائلها إلى المستقبل:
لبناء السلام، لممارسة الحب، والمصالحة
لليقظة مع النوم، لأنفسنا مع بعضنا البعض،
سنحاول بأي وسيلة
للوصول إلى حدود أنفسنا، للوصول إلى ما وراء أنفسنا،
للتخلي عن الوسائل، ...
*
في السنوات الأخيرة، اعترف عددٌ من أهم الشعراء المعاصرين الناشطين في أميركا، بتأثير روكايزر على شعرهم: سولماز شريف، كلوديا رانكين، إريكا مايتنر، سوزان برايانت وديبورا باريديز على سبيل المثال لا الحصر. كتبت باريديز، الشاعرة والناقدة، في صحيفة نيويورك تايمز، بأن المذهل في كتابة روكايزر أنها “تجسد في آن واحد الشعور بالعزلة والاتصال العميق الذي يميز حياتنا اليومية خاصة في أوقات الاضطراب” إنه يذكرنا - ماضياً وحاضراً ومستقبلاً - “بأننا نستطيع تحمل ما يبدو خارج حدود
طاقتنا”. 
قضت روكايزر شطراً كبيراً من تجربتها المهنية في تذكير الناس بإعادة التفكير في الأساطير ووجهات النظر المتأصلة: “توسيع رؤية العدسة”، قصيدة “الأسطورة” (1973) مثلاً، التي تحكي عن عودة أوديب أعمى إلى أبي الهول ليسأل: “لماذا لم أتعرف على والدتي؟”. تلزم الشاعرة نفسها بثوابت مساءلة الآخرين - بسخرية وجدية - عن “ثوابتهم”. وهي بكل ما عليه، كانت شاعرة وروائية وكاتبة سيرة ذاتية ومسرحية ومخرجة وكاتبة أطفال. وأيضاً أماً عزباء، وناشطة اجتماعية لا تكل، نضالاً ورفضاً لما أسمته “الحاجز الزائف” بين البشر وأنماط المعيشة وحرية التفكير.
القصائد الأخيرة في المختارات مأخوذة من ديوان البوابات (1976)، وتؤرخ، من بين أمور عديدة، لرحلة روكايزر إلى كوريا الجنوبية للوقوف احتجاجاً أمام السجن الذي حجز فيه الشاعر الكوري كيم تشي ها بسبب معارضته لنظام بارك. “كيف سنخبر بعضنا البعض عن الشاعر؟” تسأل روكايزر. “كيف سنتحدث إلى الطفل الذي بدأ في المشي؟” / وذلك
الراكض؟”. 
قوة هذه القصيدة في تكريس التعاطف، لكن روكايزر ظلت حذرة طوال حياتها من تبني وجهة نظر شخص آخر. رغم كشفها، في أوقات، الاختلافات بين موقعها المتميز كامرأة بيضاء، والواقع الاجتماعي للأشخاص الملوّنين – لم تُضمّن هذه القصائد في المختارات. ومع ذلك، فإنّ كتابة روكايزر، كما يشهد هذا المجلد، مشبعة بشعريات مناهضة للعنصريّة والاستعمار في ممارساتهما العمليّة. في وقت الأزمات العالميّة، وفي مجال حقوق الإنسان والتوترات العرقيّة المتزايدة، يقدم لنا شعر روكايزر طرقاً للوصول إلى “ما وراء أنفسنا”: التفكير والتخيل والتعاطف انتهاءً إلى التصرّف على نحو أخلاقي مسؤول.
لهذا السبب، لم يكن المصطلح المفضل لمتلقي القصيدة عند روكايزر “القارئ” أو “الجمهور”، بل “الشاهد”. تحمل الكلمة، عبر التاريخ، والكتاب المقدّس، ثقل علاقة الشد بين المسؤوليّة والوحي.
لذلك، فإنَّ الطاقة المستخلصة من هذه المختارات تشبه الأمل. ليس التمني أو الطموح، ولا التفاؤل الساذج، بل الأمل المعجز المشتعل في لحظات التواصل البشري، الذي يحطّم “الحواجز الزائفة”، لصالح التغيير الممكن.
 أخيراً، أُعِيدَ اصدار “كتاب الموتى” في عام 2018 من قبل جامعة ويست فرجينيا - كما كان مقرراً في الأصل- إلى جانب صور نانسي نومبورغ، المصورة التي رافقت روكايزر في عام 1936 في رحلتها للإبلاغ عن مأساة “عش الصقور”.