عبقريَّة الخطأ في مسرحيَّة {العاقر والمهد}

ثقافة 2022/07/19
...

 عباس الغالبي
يحتمي الهاجسُ الفني الأول منذ تكوينه كحكاية مأساوية تذكيها الانفعالات الشعريَّة، بمحميّات فطرية تطبّعت عليها الأداة التي عدت فيما بعد عالما يبدع الإنسان عندما تمثله. هذه المحميّات التي واكبت تطوّر الوجود الجمالي وجعلت منه خلقاً مستمراً انتجت لاحقاً أشرطة من المفاهيم القارّة، تسللت إلى آلية الكتابة المسرحيّة على أشكال ورود زاهية احتوتها سنادين الامتهان القصدي في الإنتاج.
 
 وحجّرتها طريقة سقاية الأفكار للشروع بالكتابة المسرحيّة لتُدخِل النصّ في دوامة رمادية التلّقي. تصدّت لها على سبيل الندرة فيما بعد اللحمة الحيّة للتجربة الإنسانيّة، وحساسيّة الاختلاجات التي تُشتت الحياة الاجتماعيّة، ورصد الخطوات المتلكئة لفعل الحرية الأدبيّة فمضت بالفكر إلى أن يتحايل على الضغوط والعقبات، لنشهد بعض الأحيان تفجرا لغويا عبقريا في خلق تجليات اجتماعية للمفاهيم في الكتابة المسرحية اليوم. 
يقترح الكاتب الروائي ميثم هاشم طاهر في نصّه المسرحي (العاقر والمهد) الفائز بجائزة الشارقة في دورتها الخامسة والعشرين، أداة جمالية للنصّ المسرحي في رصد الاضطراب النفسي للإنسان، حينما يتراوح بين الانحدار المعرفي وتوهّم الوعي، ومن ثم يُعيد إنتاج هذه المراوحة بين تضخم الأنا الفارغة وضمور الموقف الأخلاقي عبر كماليات الجسد. هذه الأداة لم تكن خطّة سريّة كما افترضتها الحبكة المتعارف عليها في الكتابة المسرحية، وإنما تمثّلت روح الحكاية لا روح
الدراما. 
وهنا تكمن فطنة استدعاء الخلط لأوراق اللعبة الكتابية ما بين الرواية والمسرح، لتنتج حكاية ذات خطين جماليين متناقضين من حيث مسارهما الحركي للحبكة: (حركة الفكرة، حركة الشخصية). يرتبط الخطّ الأول بضرورة المحافظة على الالتزام بالنقاء الدرامي للنص بطريقة سلسة، ثم الوصول إلى غاية منشودة ومتوقعة. في حين يرتبط الثاني بنسج معتمد على إقامة علاقات مدهشة للمفاهيم الاجتماعيّة من خلال الحركة. حركة لم تعتمد التخمين لخلق الاصطدامات بين خطوط الحبكة، بل تنبّهت لها بفعل مناخي خارجي عن المسرح، ربّما يستدعي البعض هنا منهج ستانيسلافسكي، وربطه بأسرار عملية الخلق الإبداعي. ولكن ما أريد التنبيه إليه هنا هو أن الجمال الذي يحتويه النص الإبداعي بوصفه تطورا مؤسساً دائما على شيء يتجه نحو الخروج عن الاشتراطات والمحددات، على شيء سوف يتحوّل بصورة مؤكدة إلى تحريك الدور في الكتابة لا خارجها، لذا يبدو أن وظيفة الأداة المقترحة في النص والمتمثّلة باستدعاء التفكّر بربط خيوط الحبكة تكمن في تنامي الرصد لتناغم دور الكتابة الأدبيّة مع دور الكتابة المسرحيّة.
إنّ التياومات أو الرويّة في الكتابة المسرحية على وجه الخصوص تتطلب قدرة هائلة على إثارة الاضطراب الجمعي المتولّد من اضطراب الفرد، لينتج ما لا يكاد أن يصدّق من التجليات الغريبة والمفعمة باستثارة الأسئلة حول كينونة الإنسان وطبيعة تعاطيه مع السلوكيات السائدة حتى وإن كانت تلك السلوكيات مبتنية على وجه من أوجه الخير والمكاشفة الذاتية مع السلام والطمأنينة. لذا عندما تكون الرويّة في الكتابة مشاركة تأمّلية لمفاهيم الرفض والقبول لدى الإنسان فإنّها تضاعف مزايا النص المسرحي بما يؤدّيه من وظيفة جماليّة متربّصة للفعل الدرامي من جانب، ومتحايلة على نمطيّة الكتابة المسرحيّة من جانب آخر، وهذا ما استدعته الرويّة لتكون الأداة المفتاحية لربط خيوط الحبكة في نص (العاقر والمهد). وإذا كانت الحبكة هي روح الدراما ومبدأها الأول بحسب أرسطو فإنّ من الفطنة أن تتسلل الرويّة من هذا المبدأ، ومن ثم سيصطدم هذا التسلل بتقاطع عاملين مهمّين: الأول يتجه بالنص نحو إدراك طول الحبكة، والآخر يذهب بعيدا عن الأسس المعيارية النمطية للجمال في الكتابة المسرحية، فينتج لنا عبقرية الخطأ التي افترضتها الكتابة التصوّرية للفن الحديث، بفعل عوامل كثيرة أهمّها تداخل الرؤى للأجناس الأدبية واعتبارها نظرة شمولية للوجود، ممّا يدفع بالنص المسرحي أن يقف على أبواب أسئلة كثيرة أبرزها، هل المسرح كائن فني مضطرب؟ أم هو نتيجة لاضطراب الفنون؟ أم أن لعبقرية الخطأ رأيا آخر في مستقبل المسرح؟.